حتى اللحظة الأخيرة، كانت مفكرة عاصم سلام تسجّل المواعيد. أول من أمس، كان على موعد مع تسلّم الدكتوراه الفحرية من الجامعة العربية. لم يستطع الذهاب، فمنحت له غيابياً وسلّمت لأولاده. أما صديقه المهندس ميشال عقل فكان يعوّل على حضوره لإطلاق كتابيه الجديدين في الثلاثين من الجاري. وقد طبع البطاقات، ووزّع حوالى 500 منها. قبل خمسة أيام فقط، قال له سلام عبر الهاتف إنه قد لا يستطيع الحضور لأنه متعب. المعلومة نفسها وصلت إلى صديقه المعمار رهيف فياض، الذي أخبرته فاسو، زوجة سلام، أنه ليس بخير.
توقع الصديقان الأمر، لكن وقع الخبر بقي مؤلماً. «أنا أحبّه» يقول كلّ منهما على حدة. لا تخرج هذه العبارة على لسانيهما في لحظة انفعال حزناً على صديق فحسب، بل عن وعي. تسمعها على لسان فياض بعد أن يسرد العديد من المحطات المهنية والنضالية في حياة سلام الذي يصفه بـ«المعمار المقاوم، الفنان والممتاز». ويقولها عقل بعد أن يصف رحيل سلام بأنه «خسارة للبنان والعالم العربي».
ليس في الأمر مبالغة. ولا يعود الأمر إلى ما قدّمه سلام إلى العمارة العربية فقط، بل إلى ثقافة الرجل والتزامه. منذ سنواته الأولى، كان عاصم «بيك» سلام، الراحل عن ثمانية وثمانين عاماً، يرافق والده في رحلاته إلى فلسطين. هناك التقى بالفنان جبرا ابراهيم جبرا (1919 ـ 1994)، الذي كتب له رسالة توصية إلى جماعة كامبردج في بريطانيا، حيث كان يدرس. وبالفعل انتسب إليها ليدرس العمارة فيها بعدما كان قد تخرّج من الإرسالية الفرنسية و«الإنترناشيونال كولدج»، لا من «المقاصد» كما قد يُتوقّع من بيروتي ينتمي إلى عائلة سلام. لطالما حرص سلام على الإشارة إلى هذا الأمر ليؤكد أنه لم يخضع لتربية دينية متشدّدة.
بعد عودته إلى بيروت، أسّس مع ريمون غصن قسماً للعمارة في الجامعة الأميركية، ودرّس فيه حتى عام 1977. يتذكر المعمار رهيف فياض أنه استمع إليه محاضراً في «الندوة اللبنانية» عام 1975 «وقال يومها كلاماً شكل مفاجأة لي أنا الطالب الفرنكوفوني في جامعة الـ alba. فقد قال إنه لا عمارة لبنانية، بل إسلامية عربية». هذا الأمر ينسحب على أعمال سلام، «المقاوم معمارياً». يشرح فياض «كان سلام يرفض سيطرة العمارة المستوردة ووصفها بالعمارة (مع أل التعريف) والحضارة الغربية بوصفها الحضارة. كان مقتنعاً بأن العمارة يجب أن تكون ابنة مكانها. هكذا بنى سرايا صيدا وجامع الخاشقجي ومدرسة برمانا العليا وبعض أقواس وزارة الثقافة»، لافتاً إلى استخدام سلام للحجر الرملي (كمادة) والأقواس والجدران الصلبة (من حيث الشكل). لقد قرأ العمارة على أنها تنبت من الأرض، يصل الجدار فيها إلى التراب، في حين تقوم العمارة الغربية (لوكوربوزييه) على الأعمدة وتترك الأرض حرّة، زعم أنها لإنشاء حديقة، فتبيّن أنها تتحوّل إلى مواقف سيارات أو مستودعات».
فلسفة سلام المعمارية، القائمة على المحافظة على التراث، هي التي تفسّر معركته ضدّ مشروع إعادة إعمار وسط بيروت. المشروع، كما أنجزته شركة «سوليدير» دمّر تاريخ بيروت. كتب سلام كتابين عن الموضوع (راجع الإطار في مكان آخر من هذه الصفحة)، وعدداً من المقالات الصحافية. كان همّه أن يبرز موت الذاكرة الجماعية من خلال طرد أصحاب الأملاك من «البلد». هذا هو اسمها يقول فياض منفعلاً. ما معنى «داون تاون»؟ هذا اسم لا نجده إلا في أميركا لأنه لا تاريخ لها، أما نحن فكان عندنا «البلد. ساحة البرج، باب ادريس... هناك كنت نتظاهر، نذهب إلى المقاهي، إلى السينما، يوم توفي الرئيس عبد الناصر كنا هناك. هذا المكان الجامع أصبح مكاناً للأغنياء».
يبتسم فياض عندما نسأله عن انتساب سلام إلى «حركة التجدّد الديموقراطي»، وعن تصالحه مع ساحة الشهداء خلال تظاهرات عام 2005، قبل أن يعود ويجري نقداً لها. أما بالنسبة إلى حركة التجّدد، فهو لم يتردّد في القول عام 2009 «موجود فيها بالاسم. يُحرجني أني محسوب على حركة لم أعد أشاطرها اقتناعاتي». يقول فياض «لقد تطوّر عاصم كثيراً، وهذه المراحل كانت أساسية لكي ينتهي إلى ما نعرفه عليه، مقاوماً أشد شراسة لسوليدير، مناصراً للفقراء وأصحاب الحقوق، وملتزماً حتى اللحظات الأخيرة. لقد أعطى لحراكنا وزناً».
لم يكن تصدّي سلام لمشروع الحريري، مطلع التسعينيات، المرة الأولى التي ينخرط فيها في العمل السياسي على نحو مباشر. فهو كان قد شارك، في الرابعة والثلاثين من عمره، مع عمّه صائب سلام في ما يعرف بـ«ثورة 1958». والطريف في الأمر أنه كان، خلال مشاركته في الثورة ضد الرئيس كميل شمعون، يتولى تصميم قصر الأخير الشهير في منطقة السعديات. لكن «المعركة» ضد الحريري كانت مختلفة، وهي التي دفعته إلى خوض انتخابات نقابة المهندسين عام 1996، وكان ينوي الترشّح إلى الانتخابات البلدية عام 2004. وجوده على رأس نقابة المهندسين، ولاحقاً على رأس هيئة المعماريين العرب أضاف الكثير إلى المؤسستين. يذكّر فياض بمؤتمر «القدس الآن: المدينة والناس تحديات مستمرة» الذي شارك في تنظيمه، ثم نشرت وقائعه في كتاب صدر بالتزامن مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. قبلها، شارك فياض في تنظيم مؤتمر عن «إعادة إعمار المدن بعد الحروب»، وهو أوّل نشاط يقوم به سلام نقيباً للمهندسيتن، وكان مناسبة لولادة علاقة شخصية بين الرجلين.
يحرص فياض على القول إن سلام، كان خلال الأيام الثلاثة التي يخضع فيها للعلاج الكيميائي، يصرّ على العمل والإنتاج لأن جسمه يكون نشيطاً، ولأنه يعرف أنه سيتعب بعدها ولن يستطيع القيام بأي مجهود. «كان ذلك قبل أن يقرّر التوقف عن العلاج لأنه عرف أنه لم يعد يسبّب له إلا الألم».
ليس هذا القرار الوحيد الذي انتهى إليه سلام. ابن بيروت الجميلة كان قد فقد الأمل من مدينته. «بيروت خلص انتهت». من دون تردّد، أجاب عن سؤال «الأخبار» له عن مستقبل العاصمة (http://www.al-akhbar.com/node/66089). لم يفكّر بالإجابة. بدأ كأنه توصل إليها منذ وقت، ولم يعد يجد مشكلة في إعلانها. حسم المعماري الثمانيني أمره، منذ اكتشف أنه لم يعد يحبّ الخروج من منزله الجميل الكائن في منطقة البطركية في زقاق البلاط، ليجد بناية من عشر طبقات مرتفعة في وجهه، كما قال لنا يومها. الرجل الذي كان عضواً في المجلس الأعلى للتصميم في وزارة التصميم (1961 ــ 1977)، ومن الفريق التأسيسي لمجلس الإنماء والإعمار في السنوات الست الأولى من بدء أعماله (1977 ــ 1983)، لم ينجح في تحقيق حلمه بتغيير المخطط التوجيهي لبيروت الذي يعود إلى عام 1954، ولا في تطبيق الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية. بكل ثقة يقول: «لا أمل أبداً بعد في تصحيح المساوئ. هناك تمدّد عشوائي منظم وتجهيزات لا تستوعب كلّ هذه الكثافة».
اليوم يرحل عاصم سلام. في استعراض لمسيرته، يبدو واضحاً أن هذا «البيك» الأرستقراطي خاض أبرز معارك الفقراء... لكنه لم ينجح في تحقيق الكثير من الانتصارات فيها.