لا يصيب التدهور الاقتصادي والاجتماعي الفقراء ومحدودي الدخل وحدهم. فالاقتصاد حلقة، تبدأ بالولادات الجديدة، لتصل الى أكبر مصنع أو فندق أو مشروع استثماري في لبنان. وعلى الرغم من أن أرباب الاقتصاد يحاولون دوماً تعظيم أرباحهم والاعتداد بها، الا أن الفوضى الاقتصادية الخلاقة للثروات فقط تنتج كذلك الفقر. الفوضى السياسية والأمنية التي يشرف عليها سياسيو الصف الأول والثاني والثالث (...) تنتج أيضاً تآكلاً لاستثمارات هؤلاء وتصفية لمشاريعهم.
تدمير القطاع العام ينتج عاطلين من العمل. خفض أصحاب العمل للرواتب والضمانات الاجتماعية واستمرارية العمل تنتج جيشاً من العاطلين من العمل والمهاجرين الذين، وإن أرسلوا تحويلاتهم المالية الى لبنان، الا أن قدراتهم الانتاجية تعمل على تنمية وتطوير بلدان عديدة، في حين تحوّل الكثير من المقيمين الى شحاذي حياة.
أرباب الأموال يفصّلون نظاماً اقتصادياً على قياسهم الضيّق، ومن ثم يشكون كيف أن هذا النظام يلفظ من يضخون الى جيوبهم الأموال. يمتنعون عن دفع زيادة عادلة للأجور ومن ثم يملأون لبنان بضجيجهم واستنكارهم لضعف القدرة الشرائية. يهددون بالشارع أيضاً، ويفصلون بين هيمنتهم على الاقتصاد واصرارهم على طبيعته الريعية من جهة، وبين انجرار الفقراء لحمل السلاح في مقابل 500 دولار إن لم يكن أقل من جهة أخرى. وآخر الصيحات: التجار الذين يرفضون تحديد هوامش الأرباح، ويحققون بين 300 و500 في المئة عوائد اضافية عن سعر الكلفة، يريدون أن يعود الاقتصاد الى الحافة، لا أن يسقط في الهاوية. مطلب بسيط، أثاره اجتماع لجمعيات التجار (وهي جزء من الهيئات الاقتصادية) في معظم المناطق اللبنانية أول من أمس، ولا تزال تداعياته مستمرة عبر التهديد بتحركات «قد تصل الى العصيان العام»!
فقد اعلن رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، ان الاقتصاد اللبناني انتقل الى الجحيم يوم 15 آب الماضي، إذ فقد القطاع التجاري 50 في المئة من رقم أعماله في الأشهر الأخيرة الماضية. وحمّل شماس مسؤولية تدهور الاوضاع الى الدولة. واعتبر أن ردة فعل أهالي المخطوفين، «على أحقيتها، هددت الاقتصاد بالانهيار». أما موعد التحركات فسيكون بعد زيارة البابا لبنان، وتبدأ بالإقفال الموقت للأسواق، وصولاً الى الإقفال التام وحتى العصيان المدني...
الشكاوى التي يطلقها التجار متشابهة الى حد ما. فالجمود حقيقة بفعل تدهور الوضع المعيشي، الا أن المتغيّر الذي يزيد من نسبة الجمود أو يخفضها، هو المشكلات الأمنية والسياسية التي تختلف بين منطقة واخرى. فمنذ نيسان مثلاً، ضرب التراجع الحاد في النشاط الاقتصادي منطقة صيدا. ونقطة الذروة هذه تبعتها أشهر من الانكماش منذ العام 2011. ومن ثم جاء اعتصام الشيخ أحمد الأسير ليحول التراجع الحاد الى جمود وتوقف مطلق عن العمل. هكذا يشرح رئيس جمعية التجار في صيدا علي الشريف مسار التدهور. يلفت الى أن كل المناطق اللبنانية تعاني البطء الاقتصادي. وفي المقارنة، تبين أن نسبة تراجع الحركة التجارية في هذا العام وصلت الى 50 في المئة عن العام 2011، لتضاف الى تراجع بحوالي 20 في المئة بين عامي 2010 و2011. التململ سيد الموقف، بحسب الشريف، ويوجد نحو 6 محال أغلقت نهائياً، و«اذا استمر الوضع الحالي فسنشهد المزيد من هذه الحالات».
زحلة التي عاشت منذ أيام مشكلات أمنية، ومنذ أشهر حالات خطف لأجانب، تعيش على «لحمها الحي». «رح نصير تحت الصفر» يقول رئيس جمعية تجار زحلة ايلي شلهوب. لقب «عاصمة البقاع» لا يسعف المدينة. انتشار المقاهي والملاهي والسينما ومراكز الترفيه لا يقيها. حتى الآن لا إقفال للمحال، الا أنه من المؤكد انعدام أي استثمارات جديدة وإحجام عن إضافة أية تطويرات على الاستثمارات القائمة. أما زوار المدينة فقليلون جداً «فقط 15 في المئة من المغتربين الذين يزورون المدينة جاؤوا هذا العام».
أما طرابلس، فهي تسير بين الرصاص. تجارها لم يقفلوا أبواب محالهم، وخاصة تلك البعيدة نسبياً عن نقاط الاشتباكات. «لكن، يمكن القول أن الحركة معدومة بالمطلق»، بحسب رئيس تجار طرابلس فواز الحلوة. إلا أن هذا الواقع ليس مستجداً «بدأت الاشتباكات في اليوم الثالث من عيد الفطر، لكن في اليومين الأولين للعيد لم نشهد أي حركة فعلية، لا يوجد ناس في الشوارع، الكل يشتري الحاجات الأساسية من طعام وشراب لا أكثر».
وعلى الرغم من بعد عاليه عن الخضات، الا أن المنطقة لا تشهد حركة مصطافين ولا مغتربين، وإن كان البيع متوافراً، فالشاري هو «ابن المنطقة». يشرح رئيس جمعية تجار عاليه سمير شهيب أن النازحين السوريين الموجودين، وعلى الرغم من أنهم ميسورو الحال، الا انهم لا يحركون قطاعات اقتصادية. «نحن في حالة نكبة» يقول، فقد شهد العام الماضي تراجعاً كبيراً في الحركة، وصل الى 50 في المئة عن العام 2010. وهذا العام انخفضت الحركة تراكمياً بنحو 30 في المئة عن العام الماضي. الناجون هم أصحاب محال السمانة، أما محال الألبسة والأحذية والحلويات والمطاعم والفنادق، فهي في صلب المعاناة.
الحال نفسها تنسحب على منطقة الأشرفية. رئيس جمعية التجار فيها، طوني عيد، يؤكد أن ما يمنع التجار من اقفال محالهم هو أن معظمها ايجاراتها قديمة، أو مملوكة من التجار أنفسهم. كحال جميع التجار، يشير عيد الى أن القدرة الشرائية لدى المواطنين منخفضة أصلاً، وجاءت الأزمات السياسية والأمنية لتوقف الانفاق وتقفر الأسواق. اذ إن التراجع بين عامي 2010 و 2011 وصل الى ما بين 15 و20 في المئة. أما بين عامي 2011 و2012 فهي بين 20 و40 في المئة. يشدد على أن تراجع عدد السياح والمغتربين أصاب القطاع بنكسة. كذا، ضيّع على المستثمرين الإفادة من الموسم الصيفي القصير. «الكل تأثر من دون استثناء» يشرح، فـ«الاستثمارات حلقة مترابطة، إذا توقفت المرافق السياحية عن العمل تتأثر المطاعم والأسواق وكل القطاعات المرتبطة».
هكذا، فإن الشكوى الموحدة لكبار التجار لم تدفع أياً منهم إلى طرح حتى شكوك حول السياسة الاقتصادية والاجتماعية المتبعة في لبنان، الذين يشكلون هم أنفسهم حلقة فاعلة في رسمها... وبين رؤساء الجمعيات وقراراتهم، يبقى التاجر الصغير وحده، في واجهة بلد عاطل من العمل.



60%

تراجعت الحركة الاقتصادية في منطقة زحلة بنحو 60 في المئة عن العام 2011 وبنسبة هائلة عن العام 2010، وفق ما يؤكد رئيس جمعية تجّارها ايلي شلهوب. ويشرح أن معظم التجار هم من أبناء المنطقة، لذا يمكن القول أن تراجع الحركة هو مؤشر الى الوضع السيئ للمستهلكين من أبناء زحلة



«وين الدولة؟»

يقول رئيس جمعية التجار في الأشرفية طوني عيد، إن التجار في معظم المناطق لم يفكروا هذا العام باقامة مهرجانات للتسوق. فإذا كان الوضع عاطلاً أمنياً وساسياً، فإن أحداً من المستهلكين لن يخاطر ويترك بيته مهما شاهد من اعلانات مغرية. يرى عيد أن الأزمة نابعة في الحقيقة من غياب الدولة: «لا خدمات. لا طبابة. لا أمن. لا كهرباء. لا اتصالات». ويضيف «في مشهد لأحد البرامج التلفزيونية يقول أحد الممثلين: وينية الدولة؟ سأكتفي بترداد هذه العبارة».