«أفضل المجتمعات هي التي تتكوّن من مواطنين من الطبقة الوسطى» أرسطو

يعود أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، جاد شعبان، إلى القرن الرابع قبل الميلاد لتأكيد أهمية الطبقى الوسطى في حياة المجتمعات والأمم من وحي حكم الفيلسوف الشهير ـــ تلميذ أفلاطون ومعلّم الإسكندر الكبير.
فقبل آلاف السنين من ولادة فلاسفة عصرنا (!) حدّد أرسطو قواعد ذهبيّة لنجاح الدول: الدولة يجب أن تكون عبارة عن عقد قائم على الصداقة مصمّم للترويج للأفعال النبيلة والعيش السعيد، قائمة على أولوية الطبقى الوسطى. ولكن كلّ ما يُرصد في لبنان هو رداءة العيش وتعاسة ما بعدها تعاسة: غياب للطبقة الوسطى. وعلمياً، تراجعت نسبتها من 60.1% عشية الحرب الأهلية إلى 20% فقط في عام 2004.

فتلك الطبقة تُحدَّد إجمالاً بمستوى الأجور الحقيقي وقدر السلع والخدمات الذي يؤمّنها للأجراء. وظهرت التعاسة اللبنانية في التعاطي مع هذا الملفّ في الآونة الأخيرة من باب تصحيح الأجور، وبقي العمال تحت سلطة الأمر الواقع التي تظهر في جانبي المعادلة: ممثّلوهم من جهة وأرباب عملهم من جهة أخرى.
يرى المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق أهمية خاصّة لموضوع الأجور، ولذا جعله في مقدّمة المحاور التي يتعرّض لها في مؤتمره: «إصلاح السياسات الاجتماعية في لبنان: من الدعم الانتقائي إلى الرعاية الشاملة» الذي انطلق أمس ويمتدّ يومين.
وفي هذا المحور يُشدّد جاد شعبان، وفقاً للعرض الذي قدّمه في المؤتمر، على أنّه خلافاً للمعتقد السائد المحبّب لدى قلوب اللبنانيين ـــ «ليس هناك دولة» ـــ «هناك دولة فعلاً، غير أنّها تخدم مصالح معينة ولا تخدم مصالح شعبها». فسوء الإدارة يبدو متعمّداً في ظلّ وضوح الحلول.
يُقدّم الأستاذ الجامعي مجموعة من المؤشّرات لدعم حججه: 6% من مداخيل الدولة فقط تنتج من الأرباح. القطاع العقاري يولّد نحو 10 مليارات دولار، فيما الرسوم التي تتولد منه تبلغ 600 مليون دولار فقط. وهلمّ جراً.
وهناك قضية لافتة أيضاً، وترددت في إطار إعداد مشروع موازنة عام 2012 في وزارة المال، وهي زيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 12%. «على الرغم من أنّ هذه الزيادة تؤدّي إلى رفع معدّل الفقر إلى 30%... فيما تبقى المجوهرات واليخوت غير خاضعة للضرائب».
ولكن يبدو أنّ عملية تصحيح الأجور وتحصينها ـــ وبالتالي تحسين وضع السواد الأعظم في البلاد والكفّ عن إهانته ـــ تحتاج إلى «ميزان ذهبي»، نظراً إلى حساسيات هذا البلد، بحسب النائب محمّد رعد الذي افتتح المؤتمر بحكم الرعاية السياسية.
طبعاً الميزان ضروري، لكن ما توضحه الوقائع وتؤكّده الأرقام هو أنّ ميزان المساواة في هذا البلد صدئ، ربما منذ عهد الاستقلال. والأنكى هو أنّ شيئاً لا يُنفّذ لتنظيفه وتلميعه،
إذ وفقاً للخبير الاقتصادي توفيق كسبار ـــ وهو باحث سابق في صندوق النقد الدولي ومستشار وزير المال حالياً ـــ أضحى وضع الأجراء في لبنان مزرياً إلى درجة أن «لا أحد من مصلحته أن يكون أجيراً».
يستند كسبار إلى أرقام توضح أنّ ثلث الأجراء فقط في لبنان هم في القطاع الخاص. «وهذه الأرقام لم تتغيّر منذ الاستقلال، وهي مسألة غريبة، نظراً إلى أنّ الظاهرة الأبرز للنظام الرأسمالي عموماً هي ارتفاع حجم الأجراء، ولكن ذلك لم يظهر في لبنان».
والأكثر غرابة هو أنّ «لبنان لم يشهد أي نقلة نوعية منذ تاريخ نشوئه»، ويُبرّر هذا الأمر بأنّ شيئاً من التركيبة الإجمالية لم يتغيّر بدءاً بالسياسة وصولاً إلى الإنتاجية». والأنكى هو أنّ الإنتاجية هبطت على نحو كبير مقارنة بعشية الحرب، «ما يعني أن هذا الاقتصاد غير منتج، ومع ارتفاع حجم العمالة يزداد الصراع على التوزيع وعلى تقسيم الدخل». ولكن برأي رئيس جمعية تجار بيروت الذي يُمثّل أحد فلاسفة العصر في موضوع تصحيح الأجور، فإنّ «النظام الاقتصادي القائم في لبنان ليبرالي، غير أنّه مفعم بالحسّ الاجتماعي». ويقول إنّ هذا «المعطى يجعلنا في غنى عن عودة الصراع الطبقي الماركسي إلى لبنان. نحن (أرباب العمل) دورنا مكمّل للدولة والدولة تخاذلت».
ويُلاحظ تضارب في كلام شماس وأرباب العمل الذين يُمثّلهم: أوّلاً هو يقول إنّ «ما راكمناه خلال سنوات الفورة أخيراً يجب أن نستخدمه للتوسّع وخلق فرص العمل وليس لزيادة الأجور». وفي الوقت نفسه يُشدّد على أنّ «مؤسّساتنا لم تستفد بالقدر الكافي من الفورة المسجّلة التي أفادت القطاعات الريعية».
ولكن لنعد قليلاً إلى نظرته الفلسفية الخاصة بالليبرالية. من المؤكّد أنّ نظرته ليست دقيقة بشهادة توفيق كسبار نفسه. بل أكثر من ذلك، العلم يوضح أكثر وفقاً لأستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU)، غسان ديبة. فهو يقول إنّ العلاقة السلبية بين الأجور وأكلاف الإنتاج لا تظهر في النموذج القائم في لبنان. «وخلال لحظات تحسين الأجور خلال العقدين الماضيين، لم تُسجّل ارتفاعات هائلة في معدّلات التضخّم». أي على عكس الحجّة التي يستند إليها عادة أصحاب العمل. وفي المقابل، فإنّ تأثير ارتفاع الأسعار ـــ المصطنع في الحقيقة ـــ ينبع من سلطة الاحتكارات المرعية قانوناً.
ويدعم غسان ديبة حجّته علمياً بالإشارة إلى أنّ ما يُرصد في لبنان حالياً هو مرحلة كينزية بامتياز (في إشارة إلى توصيف الاقتصادي الشهير جون ماينرد كينز). فما تمثّله الأجور من الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز 25%، ولذا يُمكن زيادة الأجور على عكس مرحلة عصر النفقات التي تفترض التقشّف.
وهكذا تجري أذية الناس عبر عدم مواجهة الاحتكارات ورفع معدّلات التضخّم وتهديد الناس بأن زيادة الأجور ستؤدّي إلى ارتفاع الأسعار. والحلّ لوضع كهذا ـــ إذا استثنينا نظرية الميزان الذهبي التي تُشير إلى الاستحالة بحجّة دقّة المراحل ـــ لا يكون «بتأكيد أنّ إعادة توزيع الدخل هي الأساس للنمو والسلم الأهلي وليس العكس، وأنّ مواجهة الهدر في القطاع العام هي الأساس، وأنّ إقرار قوانين المنافسة وحماية المستهلك وإلغاء الاحتكارات هي الأساس، وأنّ إصلاح النظام الضريبي هو الأساس»، كما يؤكّد جاد شعبان في ختام محاضرته، على أمل أن يكون هناك صدى لهذه الأفكار في غرفة تُسمّى غرفة اجتماعات مجلس الوزراء. ولكن يبدو أنّ هذه الغرفة ستبقى مظلمة إلى حين سيطرة المنطق على «الميزان الذهبي».



15 في المئة

معدّل العائلات التي تستطيع الادخار في لبنان فقط، وفقاً للبيانات التي يستند إليها توفيق كسبار. وهو مؤشّر عن مدى سوء توزيع الدخل في لبنان.



70 في المئة

من عمال القطاعين العام والخاص الذين لا تتجاوز أجورهم 1.2 مليون ليرة، فيما 8% فقط تتجاوز أجورهم 3 ملايين ليرة، وفقاً لجاد شعبان



درس لفلاسفة العصر

الفزاعة التي يستخدمها أرباب العمل لعدم تصحيح الأجور على نحو دوري هي التضخّم، غير أنّ الواقع مخالف لذلك تماماً، وفقاً لإيضاحات أستاذ الاقتصاد في جامعة (LAU) غسان ديبة. فهو يُشير إلى بلدان كثيرة تُصحّح فيها الأجور دورياً من دون مخاطر التضخّم. وفي قبرص مثلاً تُصحّح الأجور مرّتين سنوياً بنسبة ارتفاع الأسعار، ويبقى معدّل التضخّم مكبوحاً عند 2.5%...

تم تعديل هذا النص عن نسخته الورقية بتاريخ | 16 آذار 2012