حين يدخل الياباني مكاناً جديداً، يسارع إلى تفحّصه، ويختار في ذهنه الركن الأكثر أماناً للاحتماء في حال وقوع كارثة. بالنسبة إليه، لا يتطلب الأمر تفكيراً على الإطلاق. تقوده الفطرة إلى التصرّف الملائم بعدما اكتسب على مرّ السنوات ثقافة الكارثة. دخلت حياته اليومية وأضيفت إلى غرائزه. كأنها ثقافة وُلِدت معه، لكنّ اللبناني يجهلها تماماً، علماً أن بلاده تندرج ضمن الخانة «ب» للكوارث الطبيعية، أي الوسط.لا تُبنى هذه الثقافة من العدم. تحتاج إلى المأسسة والتنظيم، تمهيداً لدخولها صلب حياتنا اليومية. من هنا، تكمن الحاجة إلى إنشاء جهاز يُعنى بإدارة الكوارث. ركز رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه النائب محمد قباني، كما يقول، خلال السنوات الثماني السابقة، على تقديم توصيات للحكومة بهدف إنشاء هيئة لإدارة الكوارث. يقول إنه الرجل شبه الوحيد الذي تبنى القضية، باستثناء اقتراح كان تقدم به الوزير السابق بيار الجميّل (كان عضواً في لجنة الأشغال) عام 2001 لإنشاء وحدة لترقب الكوارث الطبيعية، ظلّ عالقاً على جدول الأعمال الحكومية. باستثناء مشروع الجميل، ينفي قباني علمه بأي محاولة لإنشاء هيئة مماثلة، علماً أن المدير العام الأسبق للدفاع المدني، العميد رفيق الفغالي، يتحدّث عن وجود مشروع قانون متكامل لإنشاء جهاز يتولى إدارة الكوارث منذ عام 1984، لا ينقصه إلا إصدار المراسيم التطبيقية، وبعض الإضافات التي قد تكون فرضتها التطورات التكنولوجية.
اقتصرت محاولات قباني على إصدار توصيات، والسبب «رفض الحكومة القاطع إنشاء الهيئة بحجة وجود الهيئة العليا للاغاثة». رفضٌ كان كافياً بالنسبة إلى رئيس لجنة الأشغال لعدم القفز فوق التوصيات نحو العمل على إعداد مشروع قانون، إلى أن وقعت كارثة فسوح. هكذا، نضطر في لبنان إلى شكر الكارثة لدفعها المعنيين إلى التحرّك. حتى مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان سيف الدين أبارو، قال: «ربّ ضارة نافعة». فالبرنامج بدأ العمل في إطار التعاون المشترك مع الحكومة اللبنانية على مشروع الحدّ من مخاطر الكوارث منذ عام 2010.
يشرح قباني أن دور الهيئة «لا يقتصر على منح الضحايا التعويضات اللازمة، بل الترقب والتخطيط والاستعداد قبل وقوع الكارثة، والتعامل معها، والعمل على التخفيف من أضرارها»، لافتاً إلى «ضرورة ترميم النفس، إلى جانب الأبنية والجسور والطرقات». يبدو متفائلاً بتصديق مشروع القانون، الذي يتوقع الانتهاء من إعداده أوائل الأسبوع المقبل، عازياً هذه الإيجابية إلى تغيّر موقف الحكومة بدءاً من عام 2010، حين طلب رئيسها في ذلك الوقت، سعد الحريري، من البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة تبني وحدة خاصة للعمل على الاستعداد للكارثة، ثم حماسة رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي. اطمئنانٌ طغى على حماسة المسؤولين المعتادة بعد وقوع الكوارث، التي لا تلبث أن تتبخر.
أصرّ قباني على الإشادة بالحريري والميقاتي، علماً أنه لم يحصل أي تقدم على الأرض منذ عام 2010، باستثناء حملات التوعية التي قادتها الأمم المتحدة، وتدريبها الدفاع المدني، وإعداد الدراسات، إلخ. ماذا عن مشروع القانون؟ يوضح أنه سيتضمن ضرورة تأمين المعلومات عن المخاطر التي تهدّد لبنان، وتحديد مواقع الزلازل وقوتها، وتأمين المرافق الأساسية خلال الكارثة، وتدعيم مباني الدفاع المدني والإطفاء والمستشفيات لتكون مقاومة للزلازل، إضافة إلى المدارس ودور العبادة والإدارات الرسمية ودور السينما وسائر الأبنية المشابهة. ولفت إلى ضرورة بناء المستشفيات في جميع المناطق اللبنانية من دون استثناء، متسائلاً «إذا انهار جسر جنوب صيدا على سبيل المثال، وقطع الجنوب عن باقي المناطق اللبنانية، فهل هناك مستشفيات كافية ومجهزة لمعالجة الناس»؟
ماذا عن الإمكانات المادية أو التمويل. يجيب قباني: «هذا ليس عملي، لكن دائماً هناك إمكان وأولويات». أما عن توافر هذه الإمكانات فجأةً، فمرتبط بحماسة الحكومة، وخصوصاً أن هيئة كهذه تتطلب هيكلة البلد من جديد. يقول «ارتبك البلد بكامله بعد حادثة انهيار المبنى، فماذا يحصل لو وقع زلزال»، مضيفاً إنه «ليلة انهيار المبنى، تفقد المطران مطر المكان وسأل: هل يوجد رأس؟ فأتاه الجواب بالنفي». لذلك يصر على ضرورة إنشاء هيئة لإدارة الكوارث.
ينقص لبنان الرأس إذاً. أمرٌ يركز عليه أبارو، إلى جانب تعزيز ثقافة الكوارث. ويشرح أن المشروع يعمل على تقديم اقتراحات للحكومة عن أفضل المعايير المؤسساتية والقانونية المعتمدة دولياً في تولي شؤون الكوارث، والتنسيق بين جميع الوزارات المعنية لوضع خطة وطنية لإدارة الكوارث، تمهيداً لعرضها على مجلس الوزراء لإقرارها، يليها إجراء مناورات تطبيقية وتدريب المعنيين، وتقويم البنى التحتية الأساسية والمدن ذات الكثاقة السكانية (بيروت وطرابلس)، وتحصين الفئات المستضعفة، وإنشاء وتطوير أجهزة الإنذار المبكر، إضافة إلى التوعية.
يشدّد أبارو على أهمية المأسسة والتنسيق بين الأجهزة، الأمر الذي يفتقده لبنان. وقد ظهر الأمر جلياً بعد وقوع كارثة فسوح، حيث تصرف المسؤولون وفقاً لرد الفعل لا التخطيط المسبق. في رأيه، إذا توافرت الإرادة، يمكن تفعيل الهيئة في وقت قصير، لكن تكريس ثقافة الكوارث يحتاج إلى سنوات من العمل. سنوات ستتكرر فيها صورة وزراء الداخلية مروان شربل والصحة حسن خليل والأشغال العامة غازي العريضي، مرتبكين في كارثة فسوح، تماماً كما كان نظراؤهم زياد بارود ومحمد خليفة والعريضي في كارثة الطائرة الإثيوبية قبل عامين؟