الزبائنية في «الصحة»: لا أريد أن أكون إشتراكياً!

الزبائنية في الصحّة: "بدّي بطّل اشتراكيّة"

  • 0
  • ض
  • ض

خصص وزير الصحّة وائل أبو فاعور بعض الوقت من كل يوم ثلاثاء لتلقي طلبات الناس مباشرة. صالونه يعجّ بالمحتاجين الذين حرمتهم الدولة من حقهم الطبيعي بالتغطية الصحية الشاملة. يأتون إليه لاستجداء الاستشفاء والطبابة والدواء، تاركين كرامتهم خارج مبنى الوزارة التي تتسابق عليها الأحزاب الطائفية كي تستغلها في شراء الولاءات.

يوم الثلاثاء من كل أسبوع، ليس يوماً هادئاً في وزارة الصحة. هناك، في الطبقة الثامنة من المبنى، "وفودٌ" من مواطنات ومواطنين ينتظرون دورهم للقاء الوزير وائل أبو فاعور. هذا اليوم مخصص لتلقي الطلبات والشكاوى. يغصّ "صالون" مكتب الوزير بالمواطنين القادمين من مختلف المناطق اللبنانية طلباً لخدمات صحية يُفترض أن تمثل أدنى حقوقهم الإنسانية. من يأت باكراً لا يحظ بلقاء الوزير فحسب، بل يتمكّن من حجز مقعد له يجنبه عناء الانتظار وقوفاً لساعات طويلة. ولأن غالبية "الطامعين" بلقاء مرجوّ مع الوزير يأتون باكراً، قبل وصول الوزير، سرعان ما تمتلئ هذه المقاعد، ويصبح عدد المنتظرين وقوفاً داخل الصالون أكثر من عدد المنتظرين الجالسين. وعندما يغص المكتب بهؤلاء، تُفتح صالة الانتظار في المكتب المجاور لمكتب الوزير، وتصبح زوايا الطبقة كلها أمكنة انتظار. فعلياً، تبدأ "العجقة" من مصعد الوزارة، حيث يطول صف الانتظار أمام بابه أيضاً. لا يتوقف المصعد عند الطبقات كما تجري العادة، فالـ"وجهة" موحّدة ومحددة: مكتب الوزير. حتى، من يريد أن يسوي معاملاته في الطبقات الأخرى، حيث الدوائر المفترض أن تكون المعنية بمطالب هؤلاء، يلجأ في يوم الثلاثاء الى استخدام السلالم، تجنباً منه للتزاحم والتدافع الحاصل عند باب المصعد. أكثر من 50% من اللبنانيين لا يتمتعون بتغطية صحية، وفق تقرير البنك الدولي، أمّا المواطنون الأكثر حاجة فهم "يتمتعون بأقل تغطية صحية"، وفق دراسة "صحة المواطنين في خدمة الزبائنية السياسية"، التي أعدّها مشروع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مجلس النواب عام 2013، والتي تشير الى أن تغطية وزارة الصحة تخضع لمصالح سياسية. هذه المعلومة الأخيرة لا بد من الإشارة إليها لفهم تفاصيل مشهد "ازدحام" المواطنين أمام مكتب الوزير طلباً لعطفه من أجل تأمين طبابة أو استشفاء أو دواء لمريض محتاج. عند الشباك المقابل لباب صالون الوزير، تقف سيّدة ثلاثينية وتتأمل "الحشد" بعينين مترقبتين :"عم بيقولو الوزير بدو يفلّ ع الـ 12"، تقولها بقلق. كانت الساعة تشير الى الحادية عشرة قبل الظهر، لكن الصف الطويل الذي كان ينتظر السيدة لا يشي بـ"فرج" اللقاء المرتقب. "مع إني من الـ 8 هون"، تستطرد :"من الساعة 5 فايقة للحّق أوصل"، فهي قادمة من منطقة مرجعيون، تريد موافقة الوزير كي تستطيع أن تؤمن لشقيقها سريراً في أحد المستشفيات الخاصة لإجراء "عملية قلب". "بالحكومي ما بيعملها الحكيم، وبالضيعة قالولي ما إلك إلا الوزير يظبطلكن ايّاها بمستشفى خاص"، تقول السيّدة: "بتعرفي شو يعني مستشفى خاص (في إشارة الى التكاليف الباهظة)". توضح أن رفض الطبيب إجراء العملية في "الحكومي" يعود الى افتقاره الى التجهيزات اللازمة، وبالتالي "ما فينا نخاطر".

تنفق وزارة الصحة أكثر من 420 مليار ليرة على الاستشفاء
في الوقت الذي تعاني فيه أغلب المستشفيات الحكومية من نقص التجهيزات وسوء الإدارة، وبالتالي من غياب قدرتها على منافسة القطاع الخاص، تساهم الدولة اللبنانية بترسيخ هذه الأفضلية وتصرف أغلب موازنة الاستشفاء على القطاع الخاص. وتقدّر المبالغ التي أنفقتها وزارة الصحة على الاستشفاء في عام 2014 بنحو 420 مليار ليرة، 75% منها صرفت للمستشفيات الخاصة و25% فقط للمستشفيات الحكومية كدلالة على "قرار إبقاء الصحة رهينة الزبائنية السياسية ومصالح أصحاب المستشفيات الخاصة". ومن دلالات هذا القرار أيضاً، ترافق غياب التغطية الصحية الشاملة مع إضعاف لدور الضمان وإنهاكه في الإجراءات التي تصعّب حصول المواطنين على خدماته. لم تكن تلك السيّدة وحدها من تكبّد عناء قطع المسافة. في آخر الممر وعلى مسافة بسيطة منها، يقف عسكري يحمل أوراقاً ويتمشى ذهاباً وإياباً، يلقي نظره بين حين وآخر ليتفقّد إذا فرغ مكتب الوزير أو بعد. هذا العسكري أتى من "الشمال"، يريد أن يتوسّط لدى الوزير من أجل تسوية أوراق الضمان الاجتماعي لابن عمّه الذي يحتاج الى استكمال علاجه في المستشفى، يقول إنها المرة الثالثة التي يأتي فيها الى الوزارة ولا يتمكن من لقاء الوزير ويأمل أن "تكون الثالثة ثابتة". يُفتح باب مكتب الوزير، وتخرج سيّدة أخرى تتكلّم على الهاتف، تقول لمن يهاتفها بخيبة: "قال لي إن أدوية السرطان ليست مسهّلة وإنها تحتاج الى أموال لتأمينها، وعلى الرغم من أنه وعدني خيراً إلا أنني لم أره يسجّل لديه أي ملاحظة تذكّره بمطلبنا". ينتشر خبر اقتراب موعد مغادرة الوزير، "يتأهب" الحاضرون آملين أن لا يترك الوزارة قبل مقابلتهم. "قلتلك بدّو يفل، شفت الأمن اللي معو فلوا"، تعاتب إحدى الشابات أمها بصوت عال وسط الممر، وتخبرها بأنها لم يكن عليها أن تتكل على أحد مستشاري الوزير الذي نصحها بالقدوم الى هنا. تجيب أمها: "شو بيعرفني أنا، كنت شوفو عالتلفزيون وحبّو كثير، ما عارفة إنو قد ما كنا نحبو ونعتبرو من خاصاتنا رح نكون رقم على هاللايحة وما يجي دورنا"، تتدارك الفتاة الموقف وتحاول التخفيف عن خيبة أمها وتقول لها ممازحة: "منجي الثلاثا الجاي وإذا ما بيمشي الحال بدي بطّل اشتراكية".
4 مليارات ليرة
هي قيمة الأموال التي دفعتها وزارة الصحة عام 2012 لدعم الخدمات الصحية التي تقدمها مستوصفات ومراكز صحية تابعة للأحزاب الطائفية، والتي تقدّم خدماتها باسم تلك الأحزاب أو المجموعات الطائفية التابعة لها، بحسب دراسة "صحة المواطنين في خدمة الزبائنية السياسية" التي أعدها الخبير في قضايا الصحة نبيل حسن، والتي تعتبر أن الوزارة تلعب دوراً أساسياً في تعزيز الزبائنية السياسية من خلال دفعها من الموازنة العامة ثمن الخدمات الصحية التي تقدمها هذه المراكز.

  • أكثر من نصف اللبنانيين يفتقرون إلى التغطية الصحية

    أكثر من نصف اللبنانيين يفتقرون إلى التغطية الصحية (هيثم الموسوي)

0 تعليق

التعليقات