في آخر البلدات النائية من جبال عكار، أحرق شاب في العشرين من عمره نفسه بعد معاناة طويلة مع الفقر والعوز. لم يكمل موسى العشرين من عمره حتى عاجله الموت انتحاراً. أحرق نفسه ثأراً من عيشة لم ير فيها أيا من أسباب الراحة والهناء. كثيرون صدموا للموت المبكر هذا. بعضهم استهجن انتحاره رغم أنه كان لا يزال في مقتبل العمر، والبعض الآخر تساءل عن المبررات مستغرباً. لكن قلة منهم اختبروا ثقل سنواته العشرين التي أمضاها الشاب من دون حول ولا قوة، يعد أيامه المضجرة في منزل والده الحطّاب الفقير، الذي لم يسعفه ضيق الحال أكثر من التفكير في سد الرمق.
قبل أن يعمد موسى إلى انهاء حياته البائسة، كانت له احلام كثيرة ماتت بموته. ربما حلم الولد يوماً بأن يشتري لعبة، أو أن يظهر بلباس جديد ذات عيد. ربما حلم بدولة يفتخر بانتسابه الى مدرستها الرسمية، بدل تلك المدرسة العتيقة التي لم تعد تتسع إلا لأمثاله من بؤساء بلدته كفرتون وسائر بلدات جبل أكروم. ربما أيضاً اراد ان يكون مثل رفاق من جيله يحملون محفظة جديدة كل عام، أو يركبون باصاً ينقلهم إلى مدارس تعطيهم سلاح العلم لا البطالة... وربما كان يرغب بشيء من مباهج الحياة، التي لم يذقها ابدا في حياته القصيرة والكثيفة.
لاحت لموسى ملامح مستقبل جديد. تقدم للتطوع في عديد الجيش اللبناني، ملاذ العكاريين الوحيد. تبلغ الشاب الموافقة على قبوله. شيء ما تحرك في داخله، ارتفع سقف طموحه، ومعه علت نبرة الكلام أمام والده، فعاجله الأخير بلكمة على فمه، يقول الجيران إنها أدت إلى تحطيم بعض أسنانه. كبرياء مستفيقة بعد طول كبت، جعلته يهدد بحرق نفسه. لم يكترث أحد للتهديد، فأحياناً وطأة الفقر والحرمان تميت القلب والعنفوان. خرج إلى الشارع، بيده زجاجة بنزين، وفي الأخرى ولاعة لا تشتغل جيداً. راح يسكب المادة الحارقة على جسده، ويحاول إشعالها فلم ينجح. ركض فتيان الحارة خلفه لصده عن فعلته. لا هم استطاعوا اللحاق به، ولا هو أفلح بإحراق نفسه. رمى بنفسه خلف جدار، وهناك تمكن من إضرام النار.
خلّف المشهد خوفاً شديداً، لم يجرؤ احد على الاقتراب منه في بداية الأمر إلا نازح سوري يقيم في البلدة. ولاحقاً هرع آخرون يلفونه بأغطية لإطفاء النيران. نقل موسى إلى مستشفى السلام في طرابلس، في محاولة لإنقاذه في قسم معالجة الحروق، مشاكل الفقر لاحقت ذويه إلى المستشفى حيث كلفة الاستشفاء باهظة بالنسبة إليهم، مضت أربعة أيام، فجاء خبر وفاته صباحاً التاسعة من نهار أمس متأثراً بحروقه.