مثل كل مرة، يُراد أن تحل قضية فاطمة بكور على الطريقة اللبنانية. فجأة ينسى الجميع أن قبل فاطمة بكور، هناك نادين في صربا وقبلهما هناك رولا في حلبا. وقبلهن هناك العشرات. وهناك دائماً «زوج» قاتل أو متهم أو مشتبه فيه أو بريء حتى يثبت العكس. وهناك دائماً عشائر تقوم وعشائر تقعد. لا ينتبه أحد إلى أن «الجمهورية» بمعناها الفعلي ليست أكثر من شاهد كل مرة، وفي أحسن الأحوال صاحبة ردّ فعل، لا تبادر إلى الردع. ولا تنوي سحب صخور الموروثات من الرؤوس.
لم يسأل أحد نفسه: لماذا لا يرتدع أحد؟ لماذا يستسهل «الذكور» القتل؟
قبل منزل فاطمة بكور بأمتار قليلة، يقعد صاحب المنشرة قدام منشرته، وحوله مجموعة شبان. بمجرد السؤال عن المكان الذي ستُمثَّل فيه الجريمة، يستنفر الجميع، ويستنكرون ما قيل في بيان صادر عن قوى الأمن الداخلي عن أنّ الزوج اعترف بقتل زوجته. الاستنكار نابع من اقتناع أهل البلدة بأنّ الزوج المشتبه فيه خ.غ. لا يستطيع أن «يقتل برغشة». والتشبيه بحد ذاته ذكوري، لكن لا فائدة من مساجلة الشباب، ما دامت نياتهم تبدو صافية في ظاهرها. الجميع يعتقد أن الزوج «مفجوع». ودفاعهم عن الزوج ليس أكثر من دفاع عن انتمائهم إلى قريتهم. في وسط البلدة، أحد الوجهاء، رفض الإفصاح عن اسمه، قال إنه لم يعلم باعترافات الزوج. «الوجيه» على معرفة جيدة بالزوج. ويروي أن الأخير كان يعدّ الدقائق بانتظار مولوده الأول. يؤكد أن الزوج عند معرفته بالخبر «انهار وفقد وعيه». ثم يعلن: «إذا أخطأ واحد منا، يدفع ثمن الخطأ، فالحياة لا تتوقف هنا». لا يعني هذا أنه يقصد الاستخفاف بالضحية، وإن كان الواقع كذلك فعلاً، بل يريد أن يتعامل مع الجريمة في الإطار اللبناني «العشائري»، معقباً: «بين مرياطة وبقرصونا روابط نسب متعددة، والضحية فاطمة لا نعتبرها من خارج البلدة، فقد ربيت عندنا، وجدها حسن حميدو بكور من وجهاء المنطقة ومن كبار المصلحين فيها». ماذا تعني كل هذه «الوجاهات» سوى انعدام الأمل. ماذا تعني سوى أن الناس في القرية لا تشعر بموت فرد، بل تشعر بتهديد للجماعة. بنبرة ساخطة يعبّر الجميع عن سخطهم من «أساليب التحقيق المتبعة»، وتالياً من النتائج المنبثقة منه. يبدو هذا معقولاً في البداية. يقولون إنهم شاهدوا «دعوسة» في الشاحنة العسكريّة. وسمعوا أن الزوج تعرض للضرب خلال التحقيق. وفي الأساس، مرّت التحقيقات بسلسلة عجيبة من الاتهامات. في البدء، طاولت الاتهامات الحلقة الأضعف. لم يبق أحد إلا لاحق البدو والسوريين في مرياطة. تبين سريعاً أن لا علاقة لهم، بعد «حملة» قام بها ناشطون في البلدة. وانتقلت الشبهة إلى مجموعة قُصّر على قرابة بالضحية، اتهموا بالسرقة وألقى الجيش القبض عليهم وأعلن أنهم اعترفوا بالجريمة. وأخيراً، وفقاً لبيان قوى الأمن الداخلي، أمس، اعترف الزوج بعد التحقيق معه بقتله زوجته «بسبب شجار حاد حصل بينهما لأسباب شخصية في الليلة التي سبقت ارتكاب الجريمة، وأنه أقدم على كمّ فمها وربط يديها ورجليها بشريط لاصق ثم ذبحها بواسطة سكين مطبخ (جرى ضبطها)، وبعد ارتكابه الجريمة نظّف السكين من الدماء وأعادها إلى مكانها. كذلك أقدم على أخذ مصاغها المؤلف من ثلاثة خواتم وسوارين من الذهب، إضافة إلى المبلغ المالي الموجود في المنزل وعمد إلى فتح الخزانة وتركها مفتوحة للإيحاء بأنّ الدافع إلى الجريمة هو السرقة، وغادر المنزل إلى عمله كالمعتاد».
كان من المتوقع أن تشهد البلدة تمثيل الجريمة أمس، لكن القوى الأمنية أجّلت الأمر، بسبب معلومات عن «غضب الأهالي». «الأهالي» يشعرون بأنّ ما يملكونه من مشاعر أقوى من التحقيقات ومن اعتراف الرجل نفسه. ونتحدث عن بلدات فيها مساحة كبيرة للعاطفة. بلدة مرياطة الزغرتاوية الواقعة على طريق الضنية تنتمي إلى النسيج الاجتماعي الضناوي. على الطريق الرئيسية، ما من شيء فيها يدل على وقوع جريمة مروعة تمثلت بذبح فاطمة بكور، وهي حامل بشهرها السادس. فالبلدة هناك تحولت إلى سوق تجارية ضخمة تضج بالحركة، ولا سيما مع استمرار الوضع الأمني المتدهور في طرابلس. لكن مع ولوج الأحياء الداخلية المؤدية إلى منزل الضحية يتبدل المشهد كثيراً. الوجوم واضح على الوجوه، والسؤال عن موقع منزل الضحية يجعل السائل عرضة للاستجواب. الحارة لم تنم طوال الليل، ويبدو أن ثمة خشية من انتقام ينفذه أهالي الضحية من بلدة بقرصونا. وثمة أحاديث عن سيارات بزجاج عازل، ظلت تجوب الشوارع حتى طلوع الفجر، وأغلب الظن يتوقع البعض أنها كانت تحوي مسلحين. وهذا هو المنطق اللبناني، الذي يريده النواب، ويريده الجميع إلى الأبد. ثأر، وسيارات بزجاج عازل، وأشياء من هذا النوع. بينما القصة أن زوجاً، هو الألف ربما، قد يكون تسلح بكل هذه «الذكورية»، ليفعل ما فعله. قد يكون بريئاً فعلاً، وهذا ما يظنّه بعض أبناء بلدته، فإذا ثبتت براءته لن يكون ذلك انتصاراً للزوج، ولا للقرية التي ينتمي إليها. سيكون هذا انتصاراً للعدالة. لكن لا أحد يتحدث عن «عدالة» هنا، كما في صربا، وكما في حلبا، ولا عن «ذكورية». الجميع يتحدثون عن كيفية «تخفيف» العقوبة، وتحويرها عن مسارها الأصلي، لا يريدون أحداً أن يتعامل مع هذا العنف الأسري.
اتصلت «الأخبار» برئيس بلدية مرياطة محمد محمود عجاج، وكان لتوه كما قال ينهي اتصالاً مع رئيس بلدية بقرصونا، فأكد «خبر قيام الزوج بذبح زوجته»، وأن قراراً بتمثيل الجريمة كان قد اتخذ، لكن جرى تأجيله لاحقاً، لتجنب بعض العواقب ريثما تهدأ النفوس قليلاً. وأضاف عجاج أنه على تنسيق تام مع رئيس بلدية بقرصونا الذي بدوره كان قد تفاهم مع عمّ الضحية، وأن وجهاء البلدتين يسلمون أمرهم لما يصدر عن القضاء، وأنهم يعملون معاً على تهدئة النفوس المشحونة. ولا أحد يفهم من أين يأتي الناس بالحق لأن يشعروا بهذا «الشحن» الثأري، «شحن» جماعي، لا يلتفت إلى الضحية، التي لا يكفيها دمها، بل تصبح مطية لكل الغرائز العشائرية.
قبل شهر تقريباً، قتلت رولا يعقوب. استنكرت «الفاعليات» عن بكرة أبيها، وصدرت التشريعات، لكنها لم تجد طريقها إلى المسّ بأسس السلوك الاجتماعي، لا يريد أحد أن يخبر الناس إذا كان زوجها هو السبب بمقتلها. يتكرر المشهد الآن. رجل يقتل زوجته انتقاماً لشرفه، أهالي الزوجة ينتفضون للانتقام بديلاً من إجراءات القضاء حتى لو قُبض على الفاعل، وسُجلت اعترافاته، وشَرع في تمثيل جريمته. الضحية الوحيدة هي الزوجة.
حسناً، الجميع يعلمون أن هذه الموروثات بحاجة إلى وقت طويل للزوال، ولكن حتى يحين ذلك الوقت، إذا حان، علينا الاعتراف أن ألبير كامو كان على حق: «لسنا ننشد عالماً لا يُقتل أحد فيه، بل عالماً لا يمكن فيه تبرير القتل»!