كولومبو | «السريلانكية» جنسية لا مهنة. فكرة بديهية صح؟ لكن لا، في لبنان المسألة مختلفة. «السريلانكية» هنا يمكن أن تكون من بنغلادش أو إثيوبيا أو الفيليبين! العاملة في الخدمة المنزلية، أصبح معنى «سريلانكا» مرادفاً للمهنة. هنا، في لبنان، من المألوف أن تسمع سيدة تسأل صديقتها: «سريلانكيّتك من أي بلد؟». سؤال يحمل في طياته الكثير من الجهل، أو قل «العنصرية» المقيتة غير المفهومة، التي تشتهر بها « شعوب» بلاد الأرز. سلوك كأن فيه شيئاً من التفوّق على السريلانكيين.
أصحابه يجهلون أن ثمة بلداً مكتمل الأوصاف يدعى «سريلانكا»، عُرفت سابقاً بسيلان، وبسرنديب في التاريخ القديم. فيها حضارة تمتد بعيداً جداً إلى ما قبل الميلاد. الشعب الذي يعيش هناك يختصره بعض الأغبياء هنا بـ«الخادمة»، بعضهم لا يعلم حتى أن الشاي المفضّل لديه زرعه هذا الشعب وصنّعه وجعله مشهوراً.
في الواقع، المسألة أبعد من عاملات المنازل. فاسم سريلانكا في لبنان مرادف، تقريباً، لكل ما هو «دون». يمكن بسهولة أن تسمع لبنانياً يشبّه إحداهن بالسريلانكية، وفي باله أنه بذلك يقلل من شأنها. يمكن في لبنان أن تلحظ هذه النظرة الاستعلائية، بسرعة، عندما تخبر معارفك بأنك ذاهب للسياحة في سريلانكا. سترى كيف تشدَه الوجوه، وتُقطّب الحواجب، قبل أن تسمع الرد بنبرة الاستهجان: «عنجد رايح على سريلانكا»؟ لوهلة تخال أنك ذكرت أمامهم أمراً لا يُصدق! ولكن مهلاً، على ماذا هذه العجرفة المقززة؟

مقارنات مبكية

ما إن تطأ قدماك أرض سريلانكا حتى تبدأ مخيلتك بالمقارنة. في مطار العاصمة كولومبو تبدأ المفاجآت. تبتاع من كشك الهواتف الخلوية خطّاً مسبق الدفع. ليست المفاجأة بالتكلفة الزهيدة، مقارنة بما هي عليه في لبنان، بقدر ما هي في تطور خدمة الإنترنت السريع على الهواتف. خدمة الـ»4G» على مساحة البلاد، التي تكبر لبنان بحوالى 5 مرات، مضى على وجودها أكثر من عام. في لبنان لا تزال قيد التجربة، وعلى نطاق ضيّق في بعض أحياء بيروت فقط. أما خدمة الـ«3G» التي وصلت حديثاً إلى لبنان، فهي مألوفة في سيلان منذ أكثر من 4 سنوات. من كولومبو غرباً، مروراً بكاندي في الوسط، وصولاً إلى ترينكومالي شمالاً، لا «تقطيش» في الإنترنت. الخدمة سريعة حتماً ودائماً. هناك لا يكفرون بإنترنت بلادهم، كما يحصل هنا.

في سريلانكا، الطرقات العامة أشبه بطرقات أوروبا. الخطوط البيضاء على الأتوسترادات ناصعة اللون، تضاهي ثلج الأرز وصنين في البياض. الإضاءة في الليل مستمرة، ولا شيء هناك، في مختلف المدن، يشبه الطريق الدولي المظلم بين طرابلس وبيروت. في تلك البلاد التي يزيد عدد سكانها على 20 مليوناً، نادراً ما تسمع «الزمّور» العبثي من السيارات، حتى تكاد تظن أن ثمة صمتاً مفروضاً في القانون. لاحقاً تعرف أن الشعب هناك يكره الضجيج، يميل إلى الصفاء، إلى حدّ أن الناس لا يعرفون معنى «التشفيط» بالسيارات.
تسأل السائق الثلاثيني، أثوليناكا، عمّا إذا كانت الكهرباء تنقطع في بلاده. يجيب بعفوية، كما لو أنه لم يفهم مغزى السؤال: «الموظفون يصلحون الأعطال التي تطرأ جراء عوامل الطقس باستمرار... يحصل هذا بمعدل 4 مرات في الشهر، ولا يستمر الانقطاع إلا لساعات قليلة». هكذا، ليس للشاب السريلانكي القدرة على استيعاب السؤال اللبناني التقليدي، إذ لا تنقطع الكهرباء عنده، إلا في حال الأعطال الطارئة. الكهرباء مسألة بديهية لا مكان للحديث عنها. الخلاصة: «لا تقنين كهربائياً في سريلانكا». بعد بضعة أيام في مزارع الشاي الفاخر، تجد نفسك تسأل: تُرى بأي شيء لبنان أفضل من سريلانكا؟

وفي السياسة أيضاً

هل ثمة من سيقول إن لبنان عاش حرباً أهلية، وبالتالي ما يعانيه اليوم هو نتيجة لتلك الحرب، وإنه لا بد من التماس العذر له؟ سيخيب أمل القائل سريعاً، عندما يعلم أن سريلانكا عانت حرباً أهلية بين عرقيتين أساسيتين فيها، استمرت لأكثر من 25 عاماً. حرب كانت بين منظمة «نمور التاميل» الهندوسية والحكومة المركزية التي يهيمن عليها البوذيون. هذه الديانة ينتمي إليها نحو ثلاثة أرباع السكان. الحرب انتهت منذ حوالى 4 سنوات... سريلانكا إلى الأمام.
إذاً، لا حجة للبنان. لا مكان لأي نافذة يمر عبرها طيف التمييز العرقي تجاه «السريلانكية». عبثاً تبحث. إن كان لا بد من تمييز، فإن المعطيات تشير إلى أن لبنان هو الـ«دون» لا العكس. الشعب اللبناني، الذي اشتهر بـ«مسخرته» على شعوب أخرى، يكشف تمدن تلك الشعوب وتطورها أن «اللبناني» هو «مسخرة» العالم، علم أو لم يعلم.

سياسياً، وفيما كان مجلس النواب اللبناني يمدد لنفسه، بعد إعلان عجزه عن إصدار قانون انتخابي جديد، كانت سريلانكا تنعم بانتخابات برلمانية وفقاً لقانون التمثيل النسبي. بالتأكيد، ما عاد اللبنانيون يحلمون بقانون انتخابي مثل الذي في سريلانكا، بحجج «المناصفة» أو «المحاصصة» أو «الصيغة»... من دون أن ننسى المعزوفة الأشهر: «العيش المشترك». مجدداً تسقط كل هذه الحجج على حدود سريلانكا، بعد معرفة أن تلك البلاد، كلبنان، يتألف شعبها من أديان وطوائف مختلفة، أبرزها البوذية والهندوسية والإسلام والمسيحية. أكثر من ذلك، في لبنان لا نزاعات عرقية، أما في سريلانكا فهناك عرقيات مختلفة، أبرزها السنهال والتاميل والمورو والملاوي. لكل من بلغ الـ18 من العمر الحق في الاقتراع في سريلانكا. هل يعرف ذلك الناشطون في لبنان الذين بُحّت أصواتهم من أجل هذا المطلب: «خفض سن الاقتراع»؟
خلال السنوات الأخيرة، سمع كثيرون في لبنان بملف احتلال الأملاك العامّة البحرية. لا يمكن أي مواطن أن يسير على شواطئ لبنان، على طول الساحل، من دون أن يصطدم بمنتجعات تسيطر على الشاطئ المتصل بالبحر. في المناسبة، هذا حق يكفله القانون لكل مواطن. لكن حيتان الفساد والنفوذ أقوى من القوانين. هذا المشهد لا يمكن أن تراه في سريلانكا. تلك البلاد، التي تضم مساحة شطآن تفوق بمرات شطآن لبنان، المفتوحة على المحيط الهندي، هي ملك لكل سريلانكي. تجد الفقير يسير على رمال شواطئها، قبالة أفخم الفنادق والمنتجعات في العاصمة كولومبو، إلى جانب السياح والأثرياء. هكذا في كل المدن الساحلية، مثل نوغمبو وغال وبنتوتة. هذا سيزعج بعض السياح ربما؟ حسناً ولمَ لا، فلينزعجوا. الأولوية للمواطن. هكذا هو السائح في عيون السريلانكيين. هذا ما يقوله السائق والبقال وبائع السمك وتاجر الجلود. هي ثقافة عامة هناك، وعلى عكس السائد هنا، فهم لا يعيشون على الإطلاق عقدة الرجل الأبيض. تجدهم يعتزون بحضارتهم وبما هم عليه اليوم.

ثقافة وزراعة

لا يحتاج زائر سريلانكا إلى وقت كثير حتى ينتبه إلى ارتفاع مستوى الثقافة والتعليم. معظم أبناء المدن يتقنون اللغة الإنكليزية. مرد ذلك ربما يعود إلى الاستعمار البريطاني للجزيرة، الذي انتهى عام 1948. لكن في المقابل لديه نظام تعليمي راق. التعليم مجاني، من المرحلة الابتدائية وصولاً إلى الجامعة، وهو إلزامي إلى عمر الـ14 سنة. وبالتالي يستطيع 90% من السريلانكيين في عمر الـ15 عاماً القراءة والكتابة. بالتأكيد، اللبنانيون لا يحتاجون إلى من يخبرهم بأن نظام التعليم عندهم غير مجاني، فضلاً عن أنه غير إلزامي في المرحلة الابتدائية حتى، على عكس أغلب دول العالم «السريلانكية»!
سريلانكا دولة زراعية من الطراز الأول. الشعب هناك يأكل ممّا يزرع. علاقته بالأرض قوية إلى أبعد الحدود. هي المصدّر الأول للشاي إلى العالم. تشتهر أيضاً بزراعة الأرز وجوز الهند والمطاط. النشاط الزراعي يستوعب نسبة 50% من الأيدي العاملة، أما النسبة الباقية فتتوزع على قطاعي الصناعة والخدمات. اليوم، كل لبناني يدرك أن علاقته بالأرض باتت تقتصر على الأناشيد، والأغاني التراثية، إذ لولا الاستيراد من الخارج لما وجدنا ما نأكله من نبات أرضنا.
وإلى قطاع النقل. فإلى جانب السيارات، والدراجات النارية التي تشجع الدولة استخدامها في سريلانكا في انتظام لافت (بدل قمعها عشوائياً في لبنان بحجة العجز عن تنظيمها)... توجد شبكة من القطارات تغطي مساحة البلاد. إضافة إلى ذلك، ينتشر الـ«توك توك» المصنّع في الهند بكثرة. يندر هناك أن تجد سائق دراجة نارية لا يعتمر الخوذة، ونسبة السائقات من النساء توازي نسبة الرجال. ليس لثقافة «مخالفة القانون» رواج هناك. الكل يخشى من الشرطي ويحترمه في آن واحد.
حتى أنصار حقوق الحيوانات سيجدون ضالتهم في سريلانكا. الكلاب يمكن أن تنام في وسط الطريق، وعلى السيارات الابتعاد عنها، لا العكس. علاقة الناس هناك بالحيوانات يمكن أن توصف بالرقي الإنساني. لا مجال لأذية حيوان في تلك البلاد، بل تقديم الطعام للحيوانات على الطرقات هو الثقافة الشعبية السائدة.
ربما يسهم في ذلك إرث الديانة البوذية التي تحرّم أذية الحيوانات، لا مكان هناك لجمعيات تنادي بحقوق الحيوان.
هذه هي سريلانكا، أو بعض منها، دولة التي لا يعرف سكانها الكثير عن لبنان، سوى أنه بلد عربي «يشبه السعودية ودول الخليج». أحدهم يعمل مرشداً سياحياً في منطقة «سيغيريا» الأثرية، لا يعرف عن العرب إلا «أن عاملة سريلانكية أعدمت في السعودية بحدّ السيف قبل أشهر، بعد أن ألصقت بها تهمة ظالمة». الرجل السبعيني لا يعرف عن بلاد العرب سوى هذا. تضطر إلى أن تخبره بأنك عربي، ولكنك لست من السعودية. لكن في المقابل تخجل من أن تخبره بأن عاملات المنازل في لبنان، من مختلف الجنسيات، يعاملن كالعبيد، بسبب نظام «الكفالة» الظالم.