هي مقاه أولى من نوعها، لم يتعدّ عددها الاثنين حتى الآن، ولم تتخطّ حدودها الضاحية الجنوبية لبيروت بعد. مقهيان استفاد أصحابهما من الطابع الديني المحافظ في الضاحية، علّهما يحققان بعض الربح التجاري إلى جانب تأمين متنفّس شرعي للفتيات، حسب قولهما. والشرعي تعريفه هنا منع الرجال من دخول المقهى، وحجب النوافذ بحيث يستحيل على المارة رؤية ما في الداخل.
لكن الحظ لم يحالف مالك أحد المقهيين (جنة حواء) فاضطر إلى إغلاق أبوابه بعد سبعة أشهر فقط من الافتتاح. ما السبب؟ يرجّح مالك المقهى، الذي لم يشأ الافصاح عن اسمه، احتمال ان يكون سبب فشل مشروعه إلى موقع المقهى في مبنى سكني وعدم ارتياح الفتيات تجاه هذا الأمر «علماً أننا اخترنا شارع حارة حريك العريض لأنه يشهد حركة مكتظة طوال الوقت، أو ربما كثرة تفشي المقاهي المختلطة هي السبب». وهو حاول لاحقاً أن يخصص فترة النهار للفتيات والليل للشباب، لكن ما لبثت الخسائر تتراكم. في نهاية المطاف، أغلقت أبواب المقهى وأُخليت الساحة للمقهى الآخر المباشر أيضاً في تسميته (مقهى النساء).
مالكة المقهى الأخير، أمل علوش، لا تنفي انها أيضاً عانت من خسارة تجارية في بداية مشروعها، «في الأشهر الأولى فقط، لكن بعد فترة وجيزة مشي الحال وازداد ضغط العمل وأعداد الزبونات». أمل، ابنة الـ26 عاماً التي تسكن في فردان، أرادت أن تكون السباقة في مشروعها، ونجاح المقهى كان يعوّل على اختيارها المنطقة الأنسب له. ولماذا الضاحية؟ «لأنو فيها من كل شي»، تجيب أمل. بيروت العاصمة شكّلت مخاطرة بالنسبة لها، فالمقاهي هناك لا يرتادها «المتزمتون» عادة، على حد تعبيرها. وقع اختيار علّوش في الضاحية على مبنى من طبقتين يطلّ على أوتوستراد السيد هادي نصر الله. «آمن، مكشوف، وحيوي»، تقول. سُيّج الطابق العلوي للمبنى بزجاج عاكس من الخارج، وأسدلت الستائر من الداخل. ثم عُلّقت لافتة ضخمة تحمل اسم المقهى ووُزعت كتيبات صغيرة تُعرّف عنه في الأحياء والمدارس المجاورة ومهرتها بشعار يختصر مغزى المقهى: أيقونة الرجل مشطوبة بخط أحمر. شعار شبيه بشعار «ممنوع التدخين»، لكنّ الممنوع هنا هو الرجل فقط.
بعدها أعلنت علوش افتتاح المقهى في حفل دعت اليه نساء المنطقة، حيث قدمت فعاليات حزبية نسائية صديقة لها الدعم المعنوي وأعطتها الثقة. إذاً، الدعم النسائي المحلي شجّع ارتياد النساء الأخريات الى المقهى؟ لا تنفي علّوش انها تلقت الكثير من التعليقات السلبية قبيل الافتتاح شكّكت في هدف المقهى، وهذا الدعم كان في محلّه لطمأنة الرواد.
ايجاد متنفس للفتيات والنساء خارج أسوار المنزل، كان الدافع الأساسي لإنشاء هذا المقهى، «لا تزال هناك الكثير من الفتيات والنساء اللواتي لا يرتدن المقاهي الاعتيادية بسبب تشدد أهاليهن أو أزواجهن». إن وجود بعض النماذج التي لا تمانع الاختلاط في المقاهي لا يعني أن العائلات المحافظة قد انتفت، وفقاً لعلّوش. «في بعض الأحيان يتعذّر علينا تغيير عقلية العائلات المزمتة اجتماعياً، وبالتالي، الحل الوحيد يكون في ايجاد مخرج لا جدال فيه، ليكون فسحة للنساء». تعزو أمل نجاح أسباب نجاح المقهى إلى كونه يراعي أوضاع النساء الاقتصادية أيضا، لا الاجتماعية فحسب. «جميعنا على دراية بوضع المرأة في مجتمعنا، ميزانيتها محدودة، لذا أسعار المقهى أرخص مقارنة بالمقاهي الأخرى».
لكن مع كل هذه المراعاة، كيف تنجح في تحقيق الربح؟ «بما أن المقهى مخصص للمحافِظات بشكل مبدئي، فإن ساعات الليل لم تكن تشهد الاكتظاظ الذي نعهده خلال النهار»، تقول علوش، لذا، لتحقيق التوازن، شرعتْ في تنظيم احتفالات دينية الطابع (موالد) تدعو اليها الزبونات مقابل مبلغ زهيد يغطي تكاليف الضيافة، وحوّلت المقهى في ساعات الليل الى صالة لإقامة الموالد وسهرات الحنة وأعياد الميلاد واحتفالات لبس الحجاب للمكلّفات وغيرها.
هبة ق. (25 سنة)، زبونة شبه يومية. تقول إنها منذ عرفت بافتتاحه، «بات وجهتي الوحيدة لقضاء وقت ممتع مع صديقاتي». لا ترتاد هبة المقاهي الاعتيادية، اذ تجد نفسها محاصرة ومقيّدة بين أعين الغرباء ولا يسعها حتى «أخد نفس أرجيلة» على حد تعبيرها. لكن «بغضّ النظر عن النارجيلة، ثمّة سلوكيات على الفتاة أن تلتزم بها عند حضور الرجال، على الأقل هنا يمكنني أن أضحك وأتحرك على سجيتي دون أن أقلق حيال أي شيء». يختلف الأمر بعض الشيء بالنسبة لفاطمة ز. (22 سنة)، فهي لا تمانع الذهاب الى المقاهي الاعتيادية، لكنها وجدت في المقهى النسائي مكاناً هادئاً ومريحاً للمذاكرة والدراسة، «المقاهي الأخرى أفضلها للتسلية، فهي لا تصلح للدراسة، ضجيج وزحمة وموسيقى. أما هنا فرواق». تلفتُ فاطمة إلى أنها أيضاً نظّمت «سهرة الحنّة» مع صديقاتها في المقهى قبل ليلة زواجها، «يغنيك المكان هنا عن المنزل، كل شيء مؤمّن، المساحة، والديكور، والكهرباء، والمكيّف». والأهم بالنسبة إليها أنها لن تضطر إلى القلق بشأن إعادة الترتيب والتنظيف بعد مغادرة الضيوف، «هنا، أغادر المكان مثلهم. هذا المقهى بمثابة الجنّة، من دون آدم»، تعلّق هبة قائلة. أما زينب الحركة (26 عاماً) تبدي اعتراضها بشأن هذه المقاهي، «المجتمع اللبناني بحاجة الى حلحلة لا إلى مزيد من التعقيد، مرافق كهذه ستفاقم مشكلة التشدد ناحية الفتيات بدل أن تحلّها».



علم الاجتماع: مع وضد

لم تلق فكرة المقهى النسائي استحسان أستاذ علم الاجتماع التربوي في الجامعة اللبنانية، الدكتور طلال عتريسي، الذي اعتبر أنها لن تشهد قبولاً كثيفاً من المجتمع، بل ستعطي انطباعاً سلبياً، اذ إن المقاهي في هذه الحال قد تؤدي الوظيفة المعاكسة لها. إضافة إلى أن «العائلة المحافظة لا تقبل بذهاب الفتاة الى المقهى أكان عادياً او مخصصاً للنساء». بدورها، تشرح المعالجة النفسية د. نوال حلال، ان بعض الفتيات يملن بشكل عام الى ارتياد المرافق المخصصة لهن لما يمنحه ذلك من شعور بحرية التحرك والتصرّف بعيداً عن القيود المفروضة عليهن في حضور الرجال. وتردف أن شعوراً بالرضاقد يساور الفتاة عندما يكون لها فسحتها الخاصة المشابهة لفسحة الرجل مع أصدقائه.