في الليلكي، أو «تكساس الضاحية»، لا يحتاج إطلاق النار إلى سبب وجيه. يكفي «مشكل» على «صفّة» سيارة أو أفضلية المرور، حتى يقضي أهالي المنطقة ليلتهم في الكوريدورات إلى ساعات الفجر الأولى.فراغ أمني وإنمائي تملأه عائلات وعشائر فرضت سيطرتها وشكّلت «جيوشها» وسنّت تشريعاتها وأقامت اقتصادها الخاص، متقاسمة النفوذ في ما بينها، وأي محاولة من إحداها للتجاوز على أخرى، تتحوّل حرباً تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة. أمّا الدولة، ففي مقاعد «المتفرجين»، كعادتها، في منطقة يزيد عدد سكّانها على الـ50 ألفاً، إذ ينحصر حضورها الرسمي بنحو 20 عنصراً في مخفر المريجة، وثكنة للجيش في مجمع الحدث الجامعي. قبل أيام، قُتل شاب لخلاف على موقف دراجة نارية، وقبل أسبوع شهدت المنطقة «ليلة حمراء» من القتال الذي استمر حتى ساعات الفجر. بدأت المشكلة بين أصحاب فانات من أفراد إحدى العشائر في منطقة مار مخايل، لخلاف على تقاسم الأرباح وأفضلية الوقوف في موقف للفانات، قبل أن يصفّي هؤلاء حساباتهم لاحقاً في الليلكي. خلال أزمة البنزين الصيف الماضي، احترقت محطة في المنطقة بعد خلاف على الدور. بعدها بأيام، اشتعلت المنطقة إثر مقتل شاب على أيدي عناصر من الجيش بعد قتله عسكرياً.
كثيرون من أهالي المنطقة يفضّلون المغادرة عند «أول طلقة» على انتظار ساعات قبل انتهاء الاشتباكات. واللافت أنه رغم إطلاق النار والقذائف الصاروخية الذي استمر ساعات، لم تُسجل أضرار مادية في مناطق الاشتباك، ما يشير إلى أنّ إطلاق النار يكون في الهواء في معظم الأحيان، لـ«الترويع فقط»، إذ إن «كمية الرصاص التي أُطلقت لو وُجهت نحو البيوت أو الشوارع لكان المشهد مختلفاً»، على ما يقول أحد سكان الليلكي. إلا أن ذلك لا ينفي الخطر والرعب اللذين يتسبب بهما فلتان السلاح، إذ «زحفت وزوجتي إلى الممر وقضينا ساعات منبطحين بعيداً عن النوافذ. كان الرصاص متل الشتي».
لا يمكن فعلياً حصر عدد الاشتباكات وعمليات إطلاق النار في «جمهورية الليلكي» التي يحلم كثيرون من سكانها ببيع منازلهم ومغادرتها إلى أي منطقة ولو مجاورة لأن «كلّ شي هون غير»، بحسب أحد السكان. ويوضح: «مثلاً، اشتراكات الكهرباء مدولرة بالكامل والاعتراض ممنوع، ولا يعني السعر الرسمي الذي تصدره وزارة الطاقة أياً من أصحاب المولدات». أما «ديمقراطية» تركيب العداد فلا اعتراف بها هنا. فـ«بعد مطالبتي بتركيب العدّاد، قام صاحب المولّد بالتعليق عليه لرفع فاتورتي الشهرية. كسرت الشر وفككت العدّاد»!
تعرض مريم شقتها للبيع بـ 35 ألف دولار، «أقل من ثمنها الحقيقي. مثيلاتها في الشوارع المحيطة لا يقل ثمنها عن 50 ألفاً». ولكن، «بدنا نخلص». فادي الذي يستأجر شقة بأقل من 100 دولار شهرياً يسعى أيضاً إلى الرحيل رغم «هذه المغريات» كما يسمّيها، إذ إن «أصغر مشكلة في الحي، أو مع أحد من الجيران، لا تنتهي بأقل من إطلاق النار»، مشيراً إلى مدخل إحدى الصيدليات حيث قُتل شخص في عملية ثأر بعدما قضى 10 أعوام في السّجن عقوبةً على جريمة قتل، «لكنّها لم تكن كافية على ما يبدو لمحو أثر جريمته الأولى، فكانت الثانية».

الدولة الغائبة
في الليلكي، لا أثر للدولة أو للسّلطات المحلّية، أي البلديات. الحي مقسوم عقارياً بين بلديّتي المريجة والحدث. الأولى يرى رئيسها سمير أبو خليل «أنّ الجزء الخاص ببلديته خالٍ من المشاكل، والبلدية تنتهي صلاحيتها عند مدخل الجامعة اللبنانية»، فيما لم يرغب رئيس بلدية الحدث جورج عون بالتكلم عن الموضوع، والإجابة على أسئلة «الأخبار».
كثيرون من أهالي المنطقة يفضّلون المغادرة عند «أول طلقة» وبعضهم يعرضون منازلهم للبيع


لا تعرف الدولة وأجهزتها شوارع الحي، إنمائياً وأمنياً، ولا تظهر إلّا على شكل دوريات خجولة للجيش، «تقوم بعدّ فراغات الرّصاص بعد الاشتباكات»، وفقاً لأحد أهالي الحي. يحسم الشاب «أنّ أجهزة الدولة تعرف مطلقي النار فرداً فرداً، لكنّها لا تعتقل أحداً منهم»، موجهاً الاتهام إلى هذه الأجهزة برعاية هؤلاء وحمايتهم، و«إلّا لماذا يُتركون لترويع الناس كلّ فترة؟».
هجرة الدولة لمنطقة الليلكي أتت على مراحل، آخرها بعد عام 2019، مع اشتداد الأزمة الاقتصادية، إذ غابت أجهزة الدولة بشكل تام، لدرجة «اضطر سكان أحد شوارع المنطقة لجمع الأموال لشراء كابلات كهرباء جديدة للشبكة العامة». كما أخليت تقريباً كلّ حواجز قوى الأمن الموجودة على مداخلها، وهي نفسها مداخل للضاحية الجنوبية. حاجز الجيش الأساسي، الذي يفصلها عن منطقة الحدث، شبه خالٍ معظم ساعات النّهار، إنّما يبقى حاله أفضل من حاجزي القوى الأمنية الخاليين من أيّ عناصر.



اقتصاد الليلكي
لا تزيد مساحة منطقة الليلكي عن كيلومتر مربّع واحد تتقاسمها بلديّتا المريجة والحدث، ويقطعها شارع السّيد هادي نصرالله إلى نصفين، وتمتد من دوار الكفاءات شمالاً وصولاً إلى مدخل مجمع الجامعة اللبنانية في الحدث.
تتميّز الليلكي عن جوارها بمقدرات اقتصادية فرضها وجود بعض نقاط الاستقطاب فيها، إذ حوّلتها الجامعة اللبنانية إلى منطقة طالبية بامتياز، فالشقق السّكنية غيّر أصحابها وجهة استعمالها إلى غرف للطلاب، كما انتشرت فيها مطاعم الوجبات الجاهزة، والمكتبات والمقاهي. كما تضم مستشفى السّان جورج الذي يديره مستشفى الرسول الأعظم، ومستشفى آخر قيد الإنشاء يتبع للهيئة الصحية الإسلامية. وتُعتبر المنطقة نقطة مواصلات هامة، إذ يقع فيها «موقف فانات رقم 4»، خط النقل العام الأكثر شهرة في بيروت، والذي ينطلق من حي الجامعة في الليلكي، ليصل شارع الحمرا في بيروت.