لم تصدق وعود الجهات المانحة برفد صناديق المدارس إلّا في تلك التي تسجل التلامذة السّوريين، سواء في الدوام الصباحي، أو المسائي. أمّا التي لا يوجد فيها تلامذة سوريون فـ«لها الله» يقول مدير إحدى المدارس الرسمية. يوضح: «حصل زميلي الذي يدير مدرسة في قرية مجاورة على موازنة قدرها 20 ألف دولار من اليونيسف، بينما لم يرسلوا لي سوى 200 دولار، علماً أنّ عدد التلامذة في المدرستين متساوٍ، إنّما التلامذة السّوريون في مدرسته أكثر». ولا يخفي مدير ثانوية في صور خشيته من «عدم تمكّني من فتح الثانوية العام القادم» من جهة، ومن «التغيير الديموغرافي في القرى المفروض من قبل الجهات المانحة بالقوة من جهة أخرى، إذ يرغم المجتمع على القبول بدمج التلامذة السّوريين مع اللبنانيين، وإلّا لا مساعدات ولا تمويل».«التمييز، العنصرية، خروج الثانويات والمدارس الرّسمية عن الإدارة اللبنانية، لا عدالة في توزيع الأموال، القسمة الضيزى»، عبارات يكرّرها مديرو المدارس الرّسمية عند سؤالهم عن الموازنات التشغيلية. القانون اللبناني يطالب بالعدالة في توزيع الأموال، بينما تدعم الجهات الأممية مدارس على حساب أخرى، وتدخل إلى صناديق بعضها مبالغ تناهز الـ100 ألف دولار كموازنات تشغيلية، بينما تجاهد أخرى للبقاء على قيد الحياة. أمّا تسيير العام الدراسي في الأخيرة، فيتم ببدلات التسجيل التي يدفعها أهالي التلامذة بالليرة، والمديرون فيها لا يجدون الموارد المادية لتشغيل الخدمات الأساسيّة في المدارس.

الدعم للنازح
في المحصّلة، لا أموال في الصّناديق للمصاريف التشغيلية للتلامذة اللبنانيين بعكس السّوريين، فالجهات المانحة ترسل 147 دولاراً سنوياً عن كلّ تلميذ سوري إلى صندوق المدرسة، و18.75 دولاراً إلى صندوق الأهل. والموازنات الأممية تُرسل إلى الحسابات المصرفية بناءً على عدد التلامذة الأجانب في المدرسة الرّسمية اللبنانية، من دون أن يشكّل اللبنانيون منهم أيّ فرق وصناديقها شبه فارغة إلّا من ليرات لا تكفي لاستكمال العام الدراسي الحالي. تتركّز بشكل أساسي «المدارس المرضيّ عليها من الجهات الأممية» في منطقتي عكار وبعلبك الهرمل، حيث الكثافة الكبرى للنازحين السّوريين. كما يمتدّ التمييز ليشمل مراحل التعليم، فغالبية الثانويات لا تحتوي أعداداً كبيرة من التلامذة السّوريين، بعكس مدارس التعليم الأساسي.

حسابات مصرفية مكلفة
منذ مطلع العام الدراسي الحالي، ظهرت أزمة هزالة محتويات صناديق المدارس مقارنةً بالمصاريف المطلوبة، يومها تأمّل المديرون خيراً بطلب وزير التربية عباس الحلبي فتح حسابات بـ«الفريش دولار» باِسم المدارس. الخطوة أتت بناءً على وعود من الجهات المانحة بـ«تغذية الصناديق بالدولارات بناءً على عدد التلامذة». ولكن «تكاليف فتح هكذا حسابات تجاوزت عائداتها» بحسب مدير ثانوية في الجنوب، إذ «لم ترسل هذه الجهات سنتاً واحداً للثانوية، وبعد مراجعة المعنيين في الوزارة تبيّن أنّ المدارس التي حصّلت أموالاً بالعملة الأجنبية فيها عدد كبير من التلامذة السّوريين».
تدعم الجهات الأممية مدارسَ على حساب أخرى وتغدق على التي تستقبل تلامذة سوريين


الغياب التام لوزارة التربية، والفوضى الحاصلة بسبب الشّح المالي في الصناديق، والأمر الواقع لتشغيل المرفق العام كيفما كان، كلّها عوامل كانت تفرض على بعض مديري المدارس الرسمية القيام بأمور يصفونها بـ«غير القانونية، إنّما الضرورية». منهم من يستدين الأموال، أو يدفع من ماله الخاص، وآخرون يتحوّلون إلى فريسة لبعض الجمعيات التي لا تساعد إلا إذا برزت المساعدة إعلامياً، فترفض بعض الإدارات الابتزاز وترضى أخرى. في المقابل، يعد الوزير الحلبي بـ«الحلّ» بحسب مصادر «الأخبار»، والتي لا تأمل خيراً فـ«وقت انتظار الفرج سيطول».
وما يزيد الطين بلّة، تعميم وزارة التربية على المديرين بـ«دفع بدلات المستخدمين، والأساتذة المتعاقدين على حساب صندوق الأهل على أساس دولار صيرفة»، في حين «لا أموال بالعملة الأجنبية في الصناديق». وبالإضافة إلى المعاناة في تشغيل المدارس، يعاني المديرون مع المصارف التي تحتجز أموال الصناديق منذ سنوات، وتضع سقوفاً معيّنة للسحب الشهري لا تزيد في أغلب الأحيان على 6 ملايين ليرة، و«هذا المبلغ لا يكفي لدفع أجرة عامل واحد، أو فاتورة كهرباء».

صناديق فارغة
إذاً، تمتد أزمة التعليم الرّسمي لتشمل الأموال المطلوبة لتسيير الأعمال اليومية فيها، أو ما يُعرف بصناديق المدارس، والتي تنقسم إلى صندوقين، صندوق المدرسة، ويقع تحت إشراف المدير واللجنة المالية. وصندوق الأهل، الذي تشرف عليه لجنة الأهل، بالإضافة إلى اللجنة المالية في المدرسة. يُصرف من الصندوقين على كلّ المستلزمات اليومية للعمل، من ثمن القرطاسية ومواد التنظيف، إلى الصيانة الأساسيّة للمرفق، وصولاً إلى ثمن الوقود اللازم لتشغيل مولّدات الكهرباء، أو دفع بدلات الاشتراكات. وتُغذّى من أموال التسجيل الرمزية التي يدفعها الأهل مطلع كلّ سنة، ومساعدات من صندوق تعاضد المدارس في وزارة التربية للمدارس المتعثرة، والذي تغذيه كلّ مدارس لبنان بـ10% من مداخيلها المالية.

تعليم بالدين
«سأقوم في العام الدراسي باستدعاء السّوريين للتسجيل قبل اللبنانيين» يقول مدير ثانوية في منطقة بعبدا، فـ«لولا الإضراب لشهرين متتاليين وتوفير تكاليف تشغيلية، ووجود وفر من العام الماضي يُقدّر بـ220 مليون ليرة، إذ دفعت وقتها الجهات المانحة في صناديق المدارس كلّها، لما كانت هناك إمكانية لاستكمال العام الدراسي الحالي، فالمصاريف كبيرة جداً، والموجود لا يكفي لشراء مياه، فكيف حال الوقود لمولد الكهرباء، وتكاليف الصيانة؟».
وفي ثانوية أخرى في صور، يشير مديرها إلى «انقطاع مياه الخدمة، وبسبب عدم القدرة على تأمينها أقفلت الحمامات، ولولا قيام أحد الأحزاب الفاعلة في المنطقة بمدّ خط اشتراك من مولد محلي للثانوية لما كانت عندنا كهرباء، بالإضافة إلى تعطّل آلات نسخ الأوراق في الثانوية». يضيف المدير «الدولة تركتنا، ولو كانت أيام التدريس أكثر، لأقفلنا منذ شهر آذار»، مؤكّداً «تقديم طلب للاستفادة من المدرسة في الفترة المسائية لتأمين تمويل مناسب للفترة الصباحية»، إذ أُسمع في المنطقة التربوية كلاماً مفاده «إفتح بعد الظهر وخذ دولارات».
وفي الضاحية، يتكلم أحد المديرين عن «ديون مترتّبة عليه شخصياً بقيمة تزيد على 3 آلاف دولار»، إذ يضطر للقيام بتصليحات أساسية على مبنى الثانوية لإبقائها شغّالة، «مثل صيانة مولّد الكهرباء وشراء الوقود، وإصلاح مضخّة المياه، وتغيير أنابيب السّباكة». ويشير آخر إلى «دفعه شخصياً أجور المستخدمين والأساتذة المتعاقدين على حساب صندوق»، وحول تشغيل المدرسة التي تضمّ نحو 400 تلميذ، يذكر «شراء الأساتذة، الذين نرجوهم للعودة إلى التعليم، لأقلام اللوح، واستعمال ممحاة واحدة لكلّ صفين».