تحوّل رأس البياضة إلى قبلة سياحية في السنوات الأخيرة. المطاعم المعلّقة على رأس الجبل تطلّ على سفح أخضر مكسوّ بالأشجار البرية، وعلى خليج صخري يتوسّط الساحل الجنوبي لمنطقة صور وبلدة الناقورة الحدودية. لكن الاستثمارات المربحة وجلسات التصوير الجميلة، تُخفي خلفها نزاعاً على مرجعية الجبل الذي كان موقعاً استراتيجياً إبّان الاحتلال الإسرائيلي. حركة شراء العقارات واستصلاح الأراضي التي بدأت بعد عدوان تموز 2006، وازدهرت في السنوات الثلاث الماضية، استثارت بعض أهالي البياضة، مطالبين بحماية أراضيهم من التعدّي على مشاعاتها والاستئثار بخيراتها. وفي هذا الإطار، حصلت «الأخبار» على نسخة من عريضة وقعها عدد من الأهالي موجهة إلى النيابة العامة المالية ومصلحة السكة الحديد التابعة لوزارة النقل والأشغال العامة. تحصر العريضة طلب موقعيها بـ«إزالة التعديات الواقعة على مشاع بلدة البياضة والعائدة عقارياً لبلديتي شمع والمنصوري». يوضح أحد الناشطين في حملة إزالة التعديات، إبراهيم عليّان، لـ«الأخبار» أن التواقيع تعود إلى ممثلين عن كلّ عائلة على حدة. لكن من المتعدي؟ يتحفظ عليان عن التصريح باسمه «بسبب نفوذه وسلطته وعلاقاته مع أركان الدولة وأجهزتها الأمنية». وبالنظر إلى لائحة المالكين في البياضة يتبيّن أن المتهم هو رجل الأعمال قاسم حجيج.
حجيج: لست متعدّياً
في حديثه إلى «الأخبار»، يؤكد حجيج بأنه اشترى مئات الدونمات في المنطقة بدءاً من عام 2006، في إطار نشاطه المعتاد بشراء العقارات في المناطق كافة. «عندما تتوافر الأموال بين يديّ، أشتري بها أراضيَ ولا أدّخرها في المصارف» يقول. أخيراً، بلغ مجموع مساحة أملاك حجيج إلى حوالي 800 دونم. وفي العقار 189، أطلق عملية استصلاح واسعة، محوّلاً الجبل من أراض جرداء تغزوها الأعشاب البرية إلى مصطبات وجلول زُرعت بأنواع مختلفة من الخضر والأشجار الاستوائية. كما حفر عدداً من الآبار الارتوازية لريّ المزروعات وتغذية البركة الصناعية التي استحدثها. إضافة إلى محطة للطاقة الشمسية.
هذه الأنشطة أثارت حفيظة بعض أبناء البياضة، إذ اتهموه بوضع يده على أراضٍ مشاع ملاصقة لعقاره، ما أدى إلى اتساع مساحته وحفر الآبار بجوار البئر التي يتغذى منها خزان البلدة الواقع على بُعد مئات الأمتار. من جهته، يستغرب حجيج غضب الأهالي. يذكر بأن الأراضي التي اشتراها «كانت مستثمرة من قبل المشروع الأخضر منذ ما قبل الاحتلال الإسرائيلي حيث كانت مزروعة ومروية من الآبار الجوفية التي حُفرت آنذاك». لكن أكثر ما يثير أسف حجيج هو أن «يعترض البعض على تحويل المنطقة الجرداء المشرفة على فلسطين المحتلة إلى جنائن مزروعة على غرار المستعمرات الصهيونية في الجانب المحتل!»، لافتاً إلى أنه استعان بأبناء البلدة للإشراف على الأرض وزراعتها وحراثتها.
يسرد حجيج شواهد عدة تفيد بأنه ليس متعدياً على أي مشاع أو ملك خاص. يؤكد حصوله مسبقاً على تراخيص للاستصلاح والحفر من السلطات المعنية. «بعض أهالي البياضة تقدّموا بإخبار ضدي في فصيلة القليلة ومخفر علما الشعب بتهمة التعدي على خط سكة القطار وضم مشاعات إلى أملاكي. بناءً على إشارة المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم، تم استجوابي في الفصيلة وفي المخفر في مراحل مختلفة. وأوعز إبراهيم إلى الدائرة العقارية في قضاء صور بالكشف على المواقع المشتبه بالتعدي عليها. وكل ذلك لم يثبت أني متعدٍّ».
خزّان البياضة، الذي يخشى عليه أهلها من آبار حجيج، بات ساقطاً في أملاك الأخير ضمن العقار الرقم 176 الذي يملك غالبية مساحته (930 سهماً). وقد رفع دعوى «شيوع» للتثبت من هوية المالكين الآخرين ليضم المساحة المتبقية. ولذلك، لم يخضع العقار حتى الآن لأي
استصلاح.

مشاعات شمع ممسوحة
لم يكن قاسم حجيج، «الغريب» هو الوحيد الذي يملك مساحات واسعة في البياضة ومحيطها. في حديث إلى «الأخبار»، يستعرض عبد القادر صفي الدين، رئيس بلدية شمع التي تتبع لنطاقها العقاري غالبية أراضي البياضة، لائحة طويلة من العائلات البيروتية والكسروانية والأرمنية (...) التي تملّكت الساحل الجنوبي لصور حتى رأس الناقورة واللبونة، أبرزهم رجل الأعمال المهندس هنري صفير (من فيطرون). حجيج نفسه اشترى من أشخاص من آل شقير من بيروت، تملكوا هناك منذ ما قبل الاحتلال الإسرائيلي، ومن مالك أرمني وآخرين».
«كأبناء منطقة، لا نستغرب الهجمة على التملّك فيها. موقعها استراتيجي وطبيعتها خلابة. وبالتزامن مع المفاوضات بين لبنان والعدو الإسرائيلي حول ترسيم الحدود البحرية واستخراج النفط، حاول متموّلون جنوبيون شراء أراض طمعاً بالاستفادة من الازدهار المنتظر. وهناك ملكيات جديدة عدة بمساحات متفاوتة ويقوم أصحابها باستصلاحها وتسييجها، لكن ملكية حجيج هي الأكبر» يقول صفي الدين. ينفي الأخير، الذي يترأس البلدية منذ عام 2004، بأن يكون هناك وضع يد على المشاعات المقدر مساحتها بـ6 ملايين متر في أنحاء البلدة. قريبه النائب والوزير الأسبق محمد صفي الدين بادر في الستينيات إلى مسح شمع، مستعيناً بمروحية للجيش اللبناني. حينها، «صدرت خرائط جوية تحدّد الملكيات الخاصة والعامة في البلدة التي كان يملك معظم أراضيها آل صفي الدين. آل عليان الذين يقيمون في البياضة بشكل خاص، حصلوا على صكوك ملكية لمنازلهم وأراضيهم». لذا، ينفي صفي الدين «إمكانية اللعب بمشاعات شمع». لكنه لا يستبعد بأن يكون «مسح الطيران قد صغّر مساحة العقارات الفعلية. ما يعني أنّ حدود العقارات تزيد ما بين 5 و20 في المئة. وهو ما يفسّر اعتقاد البعض بأن حجيج أو سواه قد ضم مساحات ملاصقة إلى عقاراته». علماً أن حجيج «قد أجرى إظهار حدود لأملاكه لتبيان المساحة الحقيقية». صفي الدين يشير لـ«الأخبار» إلى أنه طلب أخيراً من الدائرة العقارية إعادة الكشف للتأكد من تهمة التعدي على المشاعات.

نريد مختاراً وبلدية
في منزله القديم في وسط البياضة، يحفظ حسن عليان (82 عاماً) الأدلة على المقاومة التي خاضها مع الأهالي للحصول على «الاستقلال الذاتي»، من دون نتيجة. هو نفسه شارك في وفود زارت عدداً من المسؤولين قبل الاجتياح الإسرائيلي للبلدة عام 1978 وإبّان الاحتلال وما بعد تحريرها عام 2000. «الرئيس نبيه بري بشكل خاص، قصدناه مرات ثلاثاً منذ عام 1992، للمطالبة بتخصيص بلدية للبياضة ومختار وفصلها عن بلدية شمع. واعتددنا بعدد الأهالي الكافي للاستقلال الإداري. وقد وصل أخيراً إلى أكثر من 600 ناخب، فيما المسجلون يزيدون على الألف نسمة».
تخصيص مختار للبياضة يُعفي الأهالي من التنقّل بين مخاتير البلدات المجاورة


يؤكد عليان أن مطالبات الأهالي لم تلق آذاناً صاغية، ملمحاً إلى أن الأحزاب النافذة في الجنوب، وفي طليعتها حزب الله وحركة أمل، لم تتحمس لهذا الطلب. لذلك لم يجد له طريقاً إلى التنفيذ. وهنا، يذكّر البعض باستقلال مزرعة الزلوطية التابعة لبلدة يارين الحدودية، ببلدية مستقلة من 9 أعضاء عام 2016 في عهد وزير الداخلية والبلديات الأسبق نهاد المشنوق. تلميحات الأهالي كثيرة منها أن «حيادهم السياسي وعدم تبعيتهم إلى تلك الأحزاب النافذة، يتسبّبان بمعاقبتهم لكي لا يصبح لهم كيان مستقل بهم». فيما يلفت آخرون إلى أن أهل البياضة كلهم من عائلة واحدة، هي آل عليان التي انتقلت من فلسطين المحتلة قبل عقود واستقرت في مزرعة البياضة ضمن أراضي آل صفي الدين، الذين عملوا لديهم في الزراعة ورعي الماشية. عليان لا ينكر أصله الفلسطيني. «جئنا من فلسطين في زمن الأتراك. عمّي قاتل مع الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى وغادر معهم ولم نعرف عنه شيئاً منذ ذلك الحين. وفي الإحصاء السكاني الذي أُجري عام 1936، تم إحصاؤنا حيث نقيم بين المنصوري والناقورة وشمع». هو نفسه قيوده في المنصوري، حيث كان أهله يقيمون ويعملون في الزراعة. فيما باقي نفوس أفراد أسرته في شمع والناقورة. لكن غالبية القيود في لوائح الشطب في المنصوري. يرى عليّان بأن تخصيص مختار للبياضة «يعفينا من التنقل بين مخاتير البلدات المجاورة وبلدياتها لإجراء معاملاتنا». أما إبراهيم عليان الموظف في مقرّ اليونيفل في الناقورة، فيلفت إلى أن «تبعيتنا لبلدية شمع قد تفوّت علينا خدمات وهبات كثيرة قد تقدّمها قوات اليونيفل التي تشترط وجود سلطة محلية لتنفيذ أي مشروع».
من جهته، يستغرب صفي الدين السعي المتكرّر لآل عليان إلى الانفصال عن بلدية شمع. «نحن نعتبرهم جزءاً من أهالي شمع ولديهم عضو بلدي منتخب». ويتساءل عن الذي «يمنعهم من الترشح «للمخترة» من ضمن حصة المخاتير المخصصة لشمع؟ هل نفتح بلدية لكلّ عائلة؟».