40 عاماً. رقم يسهل نطقه، إلا أنّ عيشه لم يكن بهذه السهولة على أهالي المفقودين. منهم من لم يطق انتظاراً، فاختار الرحيل، ومنهم من خُطف وقُتل، ومنهم من أوصى بمتابعة المسيرة بعد رحيله.القهر والعجز دفعا أم نبيل أبو الهيجا عام 1983 إلى الوقوع ضحية الاستغلال والابتزاز المالي. فبعدما عجزت عن تأمين المزيد من المال مقابل وعد بلقاء ابنها المخطوف عبد السلام، خُطفت ثم قُتلت.
أما نايفة نجار، فقادها اليأس من عودة وحيدها علي حمادة إلى الانتحار. ربّته 13 عاماً ثم غادر لزيارة جدته في القماطية، ولم يعد. لم تترك نايفة وسيلة لاسترجاعه. انتظرت 9 أشهر، ولمّا لم يعد أنهت حياتها. لم تفلح كتاباتها في امتصاص آلامها. كتبت في إحدى المرات في جريدة السفير اللبنانية: «مضى عيد الأم يا ولدي وأنت بعيد عني. ومضى شهران ونيّف وأنا أنتظر وصولك إلى بيروت… يا لها من وسيلة نقل بدائية استقلّيتها لتأتي إلي. سأنتظر قوافل الآتين للنهاية… وفي كل المحطات سأجول وأتمنى أن ألتقيك… لم يزل بصيص أمل ضئيلاً أحيا به وبعدها تستحق الحياة إما أن تحيا أو لا»… لم تكن الحياة بعده تستحق، فغادرتها.
بعد عقدين من البحث المضني عن فلذة كبده، غادر خليل حمادة الحياة تاركاً لابنتيه هلا وندى الوصية: «لا تنسوا رمزي، اسألوا عنه». حفظتها الابنتان. فبعد 40 عاماً على اختفاء رمزي في عين عنوب في الشويفات «لم نفقد الأمل من أن نعرف عنه أدنى خبر. يتراءى إليّ أنه يطرق الباب ويعود، أو يسمع عبر وسائل الإعلام أننا نبحث عنه فيردّ علينا باتصال، أو حتى تصلنا رفاته ليكون له قبر نزوره»، تتحسّر هلا. وتتمنى ندى لو أن رمزي الذي اختفى وهو ابن الـ25 عاماً كان قد تزوج «ربما كان ترك لنا ذكرى منه وبعضاً من رائحته».
ترفض يسرى سماع أغنية «لا ضلّيت ولا فليت» التي تبث على شاشة حاسوب في المعرض، «سمعتها مرة واحدة ولا أكرّر ذلك». لا تستطيع تمالك نفسها، عادت إليها الصدمة كما لو كانت تلك الشابة التي فقدت زوجها حسين نصر وشقيقها وهيب صافي اللذين كانا في طريقهما من بحمدون إلى بيروت في سيارة مرسيدس حمراء. «مع الوقت يتراجع الأمل، لست أدري ماذا أقول، صعبة جداً». كبر أولادها الخمسة وتزوجوا ولم ينسوا والدهم قط.
نهاد الجردي كبرت كثيراً، تجعدت، وخارت قواها، تتكئ على زوّار المعرض بحثاً عن اسم ابنها أيمن سليم، منقوشاً على قماشة ومعلقاً على الحائط. تجده، فتسحب القماشة، وترفعها عالياً لتصل إلى مستواها. ثم تطلب من شاب يحمل آلة تصوير: «صوّرني مع ابني». في 22 حزيران من عام 1982، وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً خُطف أيمن من بحمدون، تحفظ نهاد التاريخ بعناية مثلما تحفظ ملامحه «ابني حلو كتير، يشبهني، أشقر وعيونه خضراء».