«ليس هناك شيء لنقوله، تواصلي مع المحامي، ممنوع التصوير، من الذي أرسلك إلينا؟ هل صاحب العقار أم البلدية؟»… هذه عيّنة من العبارات التي ردّدها العجوزان سالم خوري وسهام جميّل خلال أول اتصال أجرته «الأخبار» معهما، وهي تفسّر خوفهما من خسارة المنزل الذي آواهما مذ تزوجا أوائل السبعينيات إلى اليوم، وهاجسهما من أن يبقيا بلا مأوى. لاحقاً، اطمأنا، ووافقا على رواية قصتهما.على بعد أميال من «مستشفى بيروت التخصصي للعين والأنف والحنجرة» في الأشرفية، يقف رجل مسنّ أمام بناء مهجور. يسكن الغبار طبقاته الأربع، يخرج الحديد من زواياه، شبابيكه من خشب عتيق أزرق اللون. «هذا البناء الأماميّ المهدّد بالسقوط، وخلفه، حيث أقطن، بناء متين. لكنهم يسعون إلى هدم الاثنين معاً باعتبارهما عقاراً واحداً»، هكذا يستقبلك الرجل، مباشرة يدخل في الموضوع، ويتابع بنبرة محتدة: «على من يضحكون؟ أنا قاعد هنا، لا أغادر بيتي ولو أرادوا هدمه فوق رأسي». النبرة والملامح تحكيان عن «حق مهدّد بالسلب»، وكذلك وقفة الرجل الشامخة بينما يتكئ على عصا، ودفاعه الشرس عن منزله، خاصة عندما صرخ في وجه اثنين من القوى الأمنية قدما من مخفر رأس النبع لإبلاغه بضرورة الإخلاء: «كلكم تغادرون وأبقى أنا وزوجتي هنا»…
ما الذي يضمن عدم تكرار الأمر مع مستأجرين آخرين (مروان بو حيدر)

الطريق التي تؤدي إلى البناء الخلفي، «بلوك ب»، ضيّقة. خطوات قليلة تعبرها، تعيدك سنوات إلى الوراء، إلى منزل ناءٍ. هدوء، وحوض مزروع على يمينه، وكرسي خشبية عتيقة، وحبال الغسيل تزيّن الباحة الواسعة حيث «نجتمع ونشعل النراجيل ونشوي اللحم»… يشير العم سالم إلى الأرض المتفسّخة، ويقول: «كانت كلها مبلطة قبل أن تدوسها الدبابات الإسرائيلية وتخترق الشرفة التي لا تزال تظهر الشقوق عليها. عدا ذلك، البناء قويّ جداً». إنه بناء تاريخي يحاكي البناء الأمامي الذي يقال إن الجنرال الفرنسي شارل ديغول سكنه لأيام. لم يبق في المكان غير سالم وسهام الطاعنين في السن. وهنا لبّ المشكلة. العجوزان يقفان حجر عثرة في طريق أصحاب العقار 1002 ويقيّدان عملية بيعه.

قصة العقار 1002
أشيد بناءان على العقار رقم 1002. الأول على الطريق العام، تهالكت الشرف فيه عام 2017 فقرّرت بلدية بيروت عام 2018 إخلاءه، والتعويض على السكان ببدلات إيجار لبضعة أشهر حتى يصلحه المالكون، الذين قاموا بتدعيمه جزئياً وظلّ على حاله متهالكاً ومهجوراً. أما البناء الثاني، فعلى قدمه، لا يحمل أضراراً تهدّد بسقوطه. لم يجد المالكون وسيلة لإخلاء المنزل الوحيد المسكون في هذا البناء وفق الإيجار القديم، بعدما فارق بقية المستأجرين الحياة، إلا استغلال الهزّات الأرضية التي حصلت أخيراً. فالدعوى التي رفعوها ضدهما عام 2016 لتعديل البدلات لم تؤت ثمارها. سدّدا البدلات وفقاً لقانون الإيجارات الممدّد وأودعا الإيجار لدى الكاتب العدل، ثم تم رد دعوى إبطال العرض والإيداع التي تقدم بها المالكون، وهكذا ربح سالم وسهام الجولة.
بعد الهزة الأرضية، كشف مهندس في دائرة الهندسة في بلدية بيروت على البنائين، ونظّم كتاب إخلاء العقار برمّته… بناء على تقرير الدائرة في مصلحة المباني، رقم 751 الذي صدر في 22 شباط، أحيل إلى قيادة شرطة بيروت «الإيعاز لمن يلزم ليصار إلى إخلاء البناء القائم على العقار 1002 لحين تأمين سلامة البناء. وذلك بعد الكشف المحلي الذي قامت به البلدية وتبيّن أن البناء في وضع غير سليم من الناحية الإنشائية». وعليه، وخوفاً من سقوطه، وقّع محافظ بيروت القاضي مروان عبود على المعاملة وأحيلت إلى المخفر، وبسرعة أخذت إشارة النائب العام الاستئنافي في بيروت زياد أبو حيدر للإخلاء الفوري.
كلّف المحافظ المهندس الاستشاري بالكشف على البناء ثانية فأفاد بسلامة المبنى


هاجس الشتات والذكريات
لم يكن خبراً عادياً أن «البناء آيل إلى السقوط»، ولم يكن طلباً سهلاً أن «اخلوا المنزل فوراً» لسيد في الثمانين وسيدة في الخامسة والسبعين من العمر. لكلّ منهما هواجسه. الأول يخيفه الشتات: «إلى أين أذهب أنا وزوجتي في هذا العمر؟». راتبه التقاعدي من المديرية العامة للأمن العام لا يساوي أجرة غرفة واحدة. ينظر إلى زوجته كمن يطمئنها: «مثلما تعلقت بك عندما التقيتك موظفة في وزارة الأشغال العامة والنقل أتعلق بمنزلنا». يشعره هذا المنزل بالأمان و«يمكن مغادرته إذا أمنوا لنا منزلاً آخر نختاره على ذوقنا».
أما هي، فعينها على كنز من الذكريات التي حملتها جدران هذا المنزل، حيث «كبرت وتزوجت وأنجبت». المنزل في نظرها ليس مجرد أعمدة وجدران وأسقف… للحجارة حكايات ممزوجة بالحب والسعادة والأسى… هي ابنة الحي منذ أن كانت في الرابعة من عمرها. سكنت في كنف عائلتها في البناء الأمامي من العقار، وانتقلت إلى البناء الخلفي بعد زواجها. ليس سهلاً شطب 71 عاماً بشحطة قلم… تدور سهام في المنزل وتؤشر على الذكريات. «هنا في هذه الباحة أحاطني والدي بالورود، وضُرب هاون على مقربة منا بينما كنا نلعب يوماً من أيام الحرب الأهلية القاسية. وفي هذه الغرفة جمعاتنا العائلية، أنا وإخوتي شكلنا فرقة موسيقية، أخ يدق على العود، آخر يعزف على الكمان، وآخر يدق على الطبلة». يزيد سالم من الشعر بيتاً: «وأنت كنت الراقصة»، ويضحكان...

«نثق بمتانة البناء»
كثيرة هي ذكرياتهما، يستنجدان ببعضهما لاستعادتها: «أليس كذلك يا سهام؟»، و«شو رأيك يا سالم؟». الأكيد الذي يتفق عليه الاثنان أنهما لم يغادرا المنزل إلا إبّان الحرب الأهلية، عندما حولته الكتائب اللبنانية إلى ثكنة عسكرية، فهُجّرا إلى جونية. لا يريدان تهجيراً ثانياً، «تعبنا كثيراً»، تقول سهام بتنهيدة… وليس هذه ذريعة للسكن في بناء يهدّد سلامتهما. إذ يدافع العجوزان عن متانة البناء وقدرته على الصمود «بلا أية ندوب» لدى انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب عام 2020، بينما تضرّرت أبنية مجاورة، كذلك لم يؤثر فيه الزلزال الذي ضرب لبنان عام 1956، ولا هزة 6 شباط الماضي، فـ«العمار القديم أفضل من الجديد»، هكذا طمأنهما أكثر من مهندس، وهذا ما تشير إليه حال البناء، وهذا ما يثقان به.

فساد في بلدية بيروت
عندما شعر العجوزان بـ«مؤامرة مدبرة لإخلاء المنزل، تواصلنا مع صاحب الملك فكشف عن نوايا لإحدى الوريثات في العائلة لبيع حصتها». عندها تحرّك وكيل العائلة وراجع محافظ بيروت، الذي كلّف المهندس المدني الاستشاري راشد سركيس بالكشف على البناء ثانية، فوضع الأخير تقريره الذي يوصي بمعالجة تشققين واضحين في المبنى وطمأنة الشاغلين. وبناء على تقرير سركيس، أرسلت بلدية بيروت كتاباً إلى قيادة شرطة بيروت في 10 آذار 2023 تقول فيه: «تبيّن أن العقار بلوك ب شرقي يحتاج إلى معالجة التشققين الواضحين، وأن هذه الأعمال تندرج ضمن الصيانة الدورية الواجبة للبناء من دون الحاجة إلى إخلائه». ونقلت ما أوصى به سركيس: «عدم التهويل أو تخويف من وقوع المبنى أو خطر انهياره». اتصل محافظ بيروت بسالم، وقال له حرفياً: «لا تخف، اجلس على الشرفة وتشمّس، لن يقترب منك أحد».
لكن، لولا متابعة القضية من قبل الشاغلين، وعدم القبول طوعاً بقرارات خاطئة سببها «فساد مهندسين في بلدية بيروت بالدرجة الأولى وتواطؤهم مع المالكين» لكان المستأجر وزوجته في الشارع. وبحسب مصادر في بلدية بيروت أيضاً «هناك أبنية أخرى يتم التحضير لإخلائها لذات الغاية، وهي التخلص من المستأجرين القدامى، لكن المحافظ صار أكثر حذراً وما عاد يثق بدائرة الهندسة في البلدية، ويستعين بمهندسين استشاريين خارج البلدية قبل الإمضاء على بلاغات الإخلاء».