عاماً بعد عام، تتعقد أزمة النزوح السوري في لبنان، ولا سيما مع الأزمة الاقتصادية المتمادية. بعد مرور 12 سنة على اندلاع الحرب في سوريا، خسر سوريّو لبنان التضامن معهم. بعضهم لدواع تمييزية وسياسية، والبعض الآخر بسبب رفض الكثيرين العودة إلى مناطقهم الآمنة تمسكاً بالمساعدات التي يحصلون عليها. أزمة ولّدت مشاكل اقتصادية واجتماعية، كان أبرز ضحاياها الأطفال الذين ولدوا في النزوح بلا أوراق ثبوتية أو شعور بالانتماءفي إحدى الخيم في سهل الوزاني، ولد أحمد قبل تسع سنوات. بين خيمته وخيم الجيران وحقول العنب والدراق وزرائب الماشية، أمضى طفولته ولم يذهب إلى المدرسة. كلّ ما يملكه انتماؤه إلى وطنه الواقع خلف جبل الشيخ المجاور. «أنا سوري»، ينهرنا بانفعال. «هيدي مش بلدنا. هيدي للبنان». أحمد وأشقاؤه الثلاثة، لم يرثوا من والديهم سوى الانتماء المعنوي. فهم لم يحصلوا على أوراق ثبوتية، باستثناء وثيقة تفيد بأنهم ولدوا في مستشفى مرجعيون الحكومي. لكن سراب الانتماء، لا يبدّد من سوريّتهم. يحفط الأربعة، الذين تقلّ أعمارهم عن العشر سنوات، حكايا الأهل عن القامشلي وحلب التي نزحوا منها إثر اندلاع الحرب في آذار 2011. منذ ذلك الحين، لم يزر الأطفال وعائلاتهم مسقط رأسهم.
تقول والدة أحمد، أمنية (24 عاماً) إنها غير قادرة مادياً على العودة إلى القامشلي لزيارة أهلها الذين عادوا من لبنان منذ سنوات. أما زوجها وعائلته، فقد فضّلوا البقاء لأن «الوضع هنا على سوئه، يبقى أفضل من سوريا حيث البطالة وفقدان الحاجيات الأساسية. هنا، تتوافر فرص عمل كثيرة لزوجي. فضلاً عن المساعدات التي تقدمها الأمم والمنظمات». وفي حال رغبت أمنية بزيارة سوريا، فلا يمكنها اصطحاب أطفالها لأن لا شيء يثبت بأنها ولدتهم أو تزوّجت والدهم في الأساس. «تسجيل الزواج والأولاد يحتاج إلى تكاليف مادية في السفارة السورية في بيروت ولدى الأمم (مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة)». رسمياً، لا يملك الأطفال الأربعة كيانات مثبتة، ما حرمهم من الالتحاق بالمدرسة.

تكرار المأساة الفلسطينية؟
حال أحمد وأشقائه يشبه حال عائشة (7 سنوات) التي تعتبر بأنها «سورية لأن أهلها سوريون». لا يملك هؤلاء الأطفال أدوات متنوّعة للتعرّف إلى بلادهم. في الخيم، لا يملكون تلفازاً أو هواتف ذكية. يعتمدون على الروايات المحكية من الذاكرة الجماعية للأهل، وتحديداً لمن يملك الوقت والحسّ منهم لشدّ الأواصر بين أولادهم وموطنهم.
يتشتّت تركيز جاسم عندما نسأله عن الذكرى الثانية عشرة للنزوح. لم يكن متنبّهاً لمرور أكثر من عقد بهذه السرعة. يشير إلى مستعمرتَي المطلة وكريات شمونة ويخشى تكرار تجربة اللجوء الفلسطيني. «عندما نزحنا، لم نجلب كل ّأغراضنا. ظننّا بأن الأمر لن يتخطى الشهر. أصابنا ما أصاب الفلسطينيين عام 1948». يتحسّر الوالد الثلاثيني قبل أن يستسلم لنظرية المؤامرة وتوطين النازحين. «نتمنى أن تسمح لنا الدولة اللبنانية بتشييد منازل من الاسمنت على غرار المخيمات الفلسطينية، لنرتاح من صراعنا الدائم مع الشوادر وألواح الزينكو في كلّ شتاء».
يعتمد الأطفال على روايات الأهل المحكيّة لكي يتعرّفوا إلى وطنهم


لا ذكرى جميلة
في الخيام، تنقّل محمد علي (76 عاماً) بين شقق كثيرة، استأجرها مع ولديه وأسرهما. برغم الجيرة الطيبة التي عرف بها، كان يضطرّ إلى ترك المنزل لأن أصحاب بعض الشقق أرادوا رفع بدل الإيجار، أو لأن آخرين قرّروا استعادة شققهم وعدم تأجير سوريين. همّ النزوح بدا على جسد محمد علي. تراجعت صحته تدريجياً. نقص وزنه واصفرّ لونه واحدودب ظهره إلى أن طرح في الفراش. «الزعل أقعدني» يقول بغصة. بدّل النزوح أحواله من صاحب ورشة للنجارة في سوق سد اللوز، ومنزل فخم في حيّ الشعار في مدينته حلب، إلى عاطل من العمل يعيش على المساعدات ويتشرّد من منزل إلى آخر. لا يحفظ من لبنان أي ذكرى جميلة. «زوجتي صدمتها سيارة ورفض السائق أن يدفع الدية، رغم تنازلنا عن حقنا الشخصي، مستخفاً بنا لأننا سوريون. فيما أنا وابني وزوجته وأطفاله الأربعة انتهى بنا السكن في طبقة سفلية لمنزل سكني، استغل صاحبه أزمة النزوح واستحدث جدراناً على عجل، صانعاً شبه منزل ليحصل على بدلات الإيجار التي تدفعها الأمم بالدولار. أما ولدي الثاني وأسرته، فيسكن في غرفة كان يستخدمها جارنا زريبة لبقرته. لكنه عطف علينا وقدّمها لنا كمسكن مؤقت».
ولده الساكن في زريبة كان مدير شركة في لبنان قبل الحرب. «كنت أزوره في شارع الحمرا، حيث يقيم ويعمل لدى زوج شقيقتي». يجزم محمد علي بأن اللبنانيين لم يشعروه قبل النزوح بأي تمييز. أما الآن، فيعاني أحفاده الذين لا يعرفون سوى لبنان من تحريض وكراهية من أطفال بعمرهم. «حفيدتي اكتفت بالذهاب إلى المدرسة ليوم واحد فقط. يومها، عادت مصدومة وخائفة ولم تنجح محاولاتنا في إقناعها بالعودة مرة أخرى. بلغت الآن ثماني سنوات وتتعلم القراءة والكتابة بمفردها عبر الهاتف. شقيقتها ابنة الخمس سنوات، تخاف الخروج من المنزل. ابن الجيران يراشقها بالحجارة هي وإخوتها ويعايرهم بأنهم سوريون».



بشير خضر: جيل مقبل من مكتومي القيد
أبرز الأزمات التي نتجت من أزمة النزوح السوري، الأطفال الذين ولدوا من والدين سوريين خلال الـ 12 عاماً الماضية. فيما يصوّب البعض على أعدادهم الكبيرة التي تفوق المواليد من والدين لبنانيين، يركز آخرون على عدم إحصاء مختلف المواليد السوريين في لبنان، بدقة، عددياً وجغرافياً، ما أدى إلى نشوء جيل كامل غير مسجل في أي قيود. وهذا الجيل مرجح لأن يصبح رجالاً ونساء مكتومي القيد. في هذا الإطار، نشر أمس محافظ بعلبك – الهرمل بشير خضر تغريدة على حسابه على «تويتر» ذكر فيها أن «نسبة النازحين في المحافظة الذين ولدوا في لبنان وتتراوح أعمارهم بين يوم و12 عاماً، تشكل 48 في المئة من مجمل النازحين. وتقدّمت اليوم إحدى الجمعيات بطلب الموافقة على مشروع دعم للنازحات الحوامل في بلدة واحدة، بلغ 720 سيدة حامل».
في حديثه إلى «الأخبار»، يوضح خضر أن نسبة الـ 48% ظهرت في إحصاء قام به اتحاد بلديات دير الأحمر، بهدف تبيان واقع النزوح والمخيمات الواقعة ضمن نطاقه وتنظيمه. أما الـ 720 سيدة حامل، فهنّ في بلدة عرسال. لكن خضر لفت الى أن هذا الرقم لم يحصِ كل الحوامل، إنما الفئة المستفيدة فقط من مشروع الدعم.
عملياً، لا تملك المحافظة أي صلاحية أو هامش لضبط الزواج أو الولادات لدى النازحين، فضلاً عن أنه حق إنساني لأي شخص. إلا أن خضر لا يخفي مسؤولية المنظمات في مضاعفة عدد المواليد. «كرمها بالمساعدات، سواء بنية المساعدة أو تنفيذاً لأجندة ما، يشجع على زيادة المواليد. والنتيجة لا تقتصر على زيادة حجم الأسر فقط، بل على الضغط اللوجستي والاجتماعي على المحيط من البنى التحتية إلى المشاكل الاجتماعية الناجمة عن العنف الأسري وزواج القاصرات». ويلفت إلى أن لبنان مقبل على جيل جديد من مكتومي القيد «ليس بسبب الأطفال الذين ولدوا هنا ولم يسجلوا في القيود فقط، بل أيضاً لأن الكثير من النازحين لدى وصولهم إلى لبنان أتلفوا أوراقهم الثبوتية تفادياً لترحيلهم».
الطمع بالمساعدات يشكل عاملاً رئيسياً في ازدهار النزوح السوري، بحسب خضر. «كثر يزورون سوريا من معابر غير شرعية، لكي يضمنوا استمرار استفادتهم من بطاقة اللجوء». يصنف النزوح السوري بأنه «نزوح اقتصادي وليس أمنياً». هذا الواقع خلق أزمات اقتصادية واجتماعية مع المحيط اللبناني. «معادلات برمّتها انقلبت، منها أن بعض اللبنانيين يستعيرون بطاقة لاجئ سوري لاستخدامها للدخول إلى المستشفيات والاستشفاء على حساب الأمم، لأن المستشفيات تستقبل المريض السوري تلقائياً وترفض نظيره اللبناني».


أنشطة النازحين الاقتصادية
أحصت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها النازحون السوريون ضمن تجمعاتهم الواقعة على ضفاف الليطاني في البقاع. ووجهت المصلحة كتباً إلى الوزارات المعنية «لضبط تلك الأنشطة التي تخالف آليات اللجوء وقوانين العمل اللبنانية ولزوم الحصول على تراخيص لافتتاح مؤسسات اقتصادية». وزارة العمل استجابت لكتاب المصلحة، ووجهت مراسلات إلى الأمن العام والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ودائرة العمل في البقاع، بوجوب متابعة واتخاذ التدابير اللازمة لقمع المخالفات المرتكبة من غير اللبنانيين في العمل الفعلي، من دون الاستحصال على إجازات العمل.
إحصاء المصلحة كشف وجود 71 مؤسسة تجارية و55 مزرعة حيوانات في بلدات البقاع الغربي. بلدة غزة وحدها اشتملت على 25 مزرعة و 19 محلاً. أما في البقاع الأوسط وزحلة، فقد بلغ عدد المحال والمؤسسات التجارية 522. وبلغ عدد المزارع 418. وتتنوع الأنشطة التجارية بين مطاعم ودكاكين لبيع المواد الغذائية والأسماك والثياب ومحال التزيين وتصليح الهواتف والسيارات والمهن والحرف... وتشغيل مولدات الكهرباء الخاصة وسيارات الأجرة و«التوك توك»... وهناك من افتتح مدرسة!