«ما حدا بيموت ناقص عمرو» هذا ما يردّده أبو سعيد في جلسته الصباحية المعتادة مع رفاقه من كبار السن. يسخر من الخوف الذي يشعر به الناس من زلزال مدمر، فمن وجهة نظره «القلق من الموت هو الموت بعينه». يعيش أبو سعيد في الطبقة الثانية من مبنى قديم في بئر العبد. لم يتحرّك من المنزل طوال الفترة الماضية «ولن أتحرك... فأين سأذهب؟». التسليم بقضاء الله وقدره هو ما يمنحه القوة، «أنا في الثمانين. مرّت عليّ الدواهي، واللي إلو عمر ما بتقتلو شدة»، لا ترتيبات جديدة أو احترازية عنده، سوى أنني «أقرأ آيات من القرآن عند وقوع الهزّة، وعندما تهدأ أقوم لتأدية صلاة الآيات».
بين ألمانيا والضيعة
لكن أبو سعيد ليس النموذج الذي يُحتذى. إذ تتفاوت الخيارات المطروحة أمام الناس للتعاطي مع قلق وقوع الزلزال. الأكثر تضرّراً والأقلّ حيلة هم الفقراء بطبيعة الحال، أما الميسورون فهناك من فكر في ترك البلاد، أو البدء بتدعيم البيوت. ريم من عائلة متوسطة، لكن رغم ذلك «أفكر جدياً في ترك البلد إلى ألمانيا عند عمتي لأن أعصابي تلفت».
أما سارة، وهي أم لطفلتين، فأيّ هزّة جديدة تعني بالنسبة إليها ترك بيروت إلى ضيعتها في البقاع «هناك أكثر أمناً، البيت من طابق واحد وأمامه الفلا». تخشى سارة وقوع الزلزال لأن المبنى الحديث نسبياً الذي تعيش فيه غير مقاوم للزلازل. «حمّلت تطبيقاً يُنبئ بالزلازل قبل وقوعها ولو بثوان، هكذا أشعر بأنني أسيطر أكثر على الوضع بعدما جهزت حقيبة فيها أبرز اللوازم وأهم الأوراق وضعتها في السيارة». بدورها تفكر صباح، وهي موظفة في قطاع خاص، بترك بيروت إلى القرية لكنها تعترف بعجزها عن القيام بذلك، «لأن الأمور صعبة جداً فلا عمل في الضيع، ولا تجهيزات، والحضور اليومي إلزامي لمتابعة سير العمل».
يقسّم علم الاجتماع ردود فعل الناس تجاه الكوارث إلى 3 فئات: علميّة ومتديّنة ومشكّكة


تغيير خريطة البيت
مع أن من المبكر استشراف المرحلة المقبلة لكيفية تأثير الزلازل على خيارات الناس في السكن والبناء، إلا أن أدهم، وهو شاب مقبل حديثاً على الزواج، يشكر الله لأنه لم يبدأ ببناء بيته في جبشيت بعد، «فبعدما رسمت خريطة لمنزل مؤلف من طابقين، سأبنيه من طابق واحد على أن يكون مقاوماً للزلازل». هذا الاعتبار لم يكن في باله سابقاً. في بلدة العين البقاعية، قرر حسن، وهو ربّ لعائلة من 6 أفراد، بينهم طفلان، كإجراء احترازي أن ينصب شادراً كالذي «نشيّده في أوقات الأفراح والأتراح» في أرض قريبة من المنزل، «إذا وقع زلزال نحتمي به».
بهاء حوّل المنزل، حيث ترقد أمه المريضة في السرير، إلى مكان أكثر أمناً كما يقول «فقد أزلت اللوحات والثريات من المنزل وكل ما هو غير ثابت ووقوعه في حال وقوع هزّة بسيطة يسبب ضرراً»، هذا كل ما في اليد من حيلة. أما إذا وقع الزلزال «فلن أترك أمي تموت وأنجو بنفسي». فيما اختارت ليلى «زاوية آمنة في المنزل، وضعت فيها بنك طاقة «باور بنك» وعلبة شوكولا وصندوق مياه. أقوم بذلك وأنا أؤمن بأن الله سيرأف بحالنا لأنني أظنّ أننا أخذنا نصيبنا من البلاء كل هذه السنوات».

علم الاجتماع: الناس 3 فئات
ولأن الكوارث الطبيعية تحصل على فترات متباعدة، فهي تغيب عن بال الناس ولا تكون محور اهتمامهم وتفكيرهم لمراحل طويلة من حياتهم، «وفجأة عندما تحصل تتسبّب بأضرار شديدة وتؤثر على أوضاع الناس الحياتية والنفسية بشكل عميق وتزعزع ثوابت السلوك الإنساني الفردي والجماعي، لأن هول ما جرى فاق كل تصور وحوادث سابقة» بحسب ما يشرح أستاذ العلوم الاجتماعية الدكتور زهير حطب.
يصنّف حطب ردود أفعال الناس إزاء الحدث إلى فئات ثلاثة. الأولى: التي تتمسّك بالتفسيرات العلمية، واقتنعت بأن ما جرى سيؤدي إلى هزات ارتدادية كثيرة لا تستدعي الخوف. ونسبة هذه الفئة لا تتجاوز 20% من عموم السكان وهؤلاء من المتعلمين والعلمانيين. الثانية، هي فئة المؤمنين الذين يرون أن كل ما يجري في الكون تسيّره إرادة إلهية لا رادّ لها، وهم بذلك يؤكدون إيمانهم ويجددون تعلّقهم بأن الإرادة الربّانية تمهّد لمحاسبة الناس وتذكّرهم بضرورة الخضوع لأوامر ومبادئ الدين الآيلة إلى تبعيّة الإنسان للخالق والتسليم له، ما يخفّف مصدر القلق والخوف لديهم، وهؤلاء نسبتهم 60% من المجموع العام. أما الفئة الثالثة فتتألف من مجموعة المشكّكين من غير المؤمنين وغير العلميّين، وبالتالي ليس لدى هذه الفئة شيء محسوم، وتعتبر أن ما يحصل يطالها شخصياً وعليها تغيير سلوكها. وغالباً تختلف ردود أفعال هذه الفئة، فنموذج يستسلم لكل مقتضيات التعليمات الدينية، وهؤلاء ينضوون تحت لواء «المصلّين الجدد»، ونموذج يتحوّل إلى سلوك قلقي نفساني «الوسواس القهري»، ونموذج أخير يعيش الضياع ويترك الأمور للصدفة، وهؤلاء لا مستسلمون ولا هم مرضى، ويعتبرون أن لكل إنسان من الحظّ والصدفة نصيب. هؤلاء يستمرون في حياتهم وكأنّ شيئاً لم يحصل.