تقصد الأوزاعي، وفي جعبتك اللوم الذي سمعته مراراً لسكانها الذين بنوا منازلهم عشوائياً برمل البحر والماء المالح والحديد الصدئ. هم من سكنوا بلا تراخيص، وتمدّدوا عمودياً وأفقياً من دون استشارة مهندسين لمعرفة قدرة البناء على التحمّل... وعلى رغم إدراكهم صعوبة صموده جراء الهزات المتكرّرة، قد ترتسم في ذهنك صورتهم يسترخصون أرواحهم وأرواح أولادهم طمعاً بالتملّك أو التعويض.تصل إلى هذه المنطقة الشعبية، التي ترتمي على كتف البحر وتفتح جناحيها للطائرات التي تقلع وتحط في مطار بيروت الدولي المحاذي. شيئاً فشيئاً تتبدّد الصورة. الفقر فاقع هنا، بمثابة صك براءة. المنازل عتيقة جداً، والجدران على رغم طلائها بالألوان لا تخفي التشققات والتفسّخات، ولا حتى وجوه الناس البائسة. كلما تدخل زقاقاً يضيق المكان أكثر فأكثر ويتكشّف الحرمان، ويظهر الخوف حيال ضيق الأزقة، «إذا أوقع الزلزال بناء لن يقتل من فيه فحسب، بل كلّ من حوله... لأن الناجين لن يجدوا مفرّاً»، يسخر رجل مسن بينما يمرّ في الزقاق.

بيوتنا من رمل
لا تصل الدراجة النارية إلى منزل دونيس في الأوزاعي للسبب نفسه. تدخل منزلاً شبه خال من العفش، تسكنه الرطوبة. تشعر أنه يصمد بأعجوبة، إذ يظهر الحديد في الأسقف، وتنزف الحيطان حجارة، عدا عن النش الذي يجعل البناء أكثر عرضة للاهتراء. «منذ عشر سنوات يحتاج المنزل إلى ترميم، ناشدت الجمعيات من دون نتيجة، لكن مع الهزة صارت يدي تدخل في الحائط لاتساع الفجوة»، تقول دونيس. «أزمة نفسية» أصابت العائلة بعدها سلبتها النوم.
بعد الهزّة الأرضية التي وقعت في السادس من شباط الفائت، وما تبعها من هزات محلية وزلازل مجاورة وأخبار من هنا وهناك تحذّر من الأخطر، التفت أبناء الأوزاعي إلى منازلهم المتصدّعة التي لطالما تآلفوا معها. اهتزّت نفوسهم: «بيوتنا من رمل جرّ من البحر، لن تصمد»، عبارة تسمعها على لسان الغالبية العظمى. قلة تثق بمتانة البناء الذي تسكنه، وهناك من يذهب أبعد من ذلك في تشاؤمه: «إذا تعرّضت المنطقة لهزة أقوى ستقع بالكامل مثل بيوت الرمل التي ضربتها الرياح».
مذّاك، تحول حديث الناس من الدولار وقفزاته إلى الهزة وارتداداتها. «الأول يقتل عالبطيء لكن الثانية لا ترحم»، تقول زمزم وتنقل «رعب» أهالي الأوزاعي الذين تعرف أخبارهم عن كثب منذ سكنت وفتحت محلاً لبيع الأحذية في شارع السوق قبل سبع سنوات، فـ«أنا مختارة الأوزاعي»، كما تلقّب نفسها. تردّ على السؤال عن تداعيات الهزة عليها بسؤال يحمل في باطنه إجابة واضحة: «معقول يصير زلزال؟» صوتها المذعور وملامحها التي تغيرت فجأة واختفاء الابتسامة عن وجهها تحكي مخاوف لم تنم منذ السادس من شباط.

كابوس الزلزال: «أخاف النوم»
كلما أغمضت منى (57 سنة) عينيها لتنام «أخاف أن تباغتني الأرض وتهتز فلا ألحق أن أهرب، أو اضطر أن أهرب من دون غطاء الرأس ومن دون اصطحاب أمي المسنة». حتى في الأحلام لا يفارقها «كابوس الزلزال» والأبنية التي تسوّى أرضاً فوق الأشلاء. في صحوتها، «نظري كلّ الوقت يراقب السقف». تسكن منى خلف مخفر الأوزاعي في بناء يزيد عمره على الـ60 عاماً ويبعد من البحر «قطعة شارع». في صالون منزلها «قطعة كبيرة غير متعلقة في السقف، أتفادى المرور من تحتها، وانتقلنا للنوم في غرفة الجلوس بعدما صارت غرفة النوم بحالة مزرية».
صحيح أن الجميع يخاف من مآل الهزات، وأن الزلزال عندما يقع سيوقع أبنية غير مهدّدة بالسقوط، لكن الوضع يختلف عندما يكون المنزل في الأصل متداعياً وهزة عابرة قد لا تحدث ضرراً في الأول، قد تسقط الثاني أو يسقط سقفه لكثرة الهزات واشتداد التصدع. أضف إلى ذلك أن قاطني الأبنية المتداعية، إذا قرروا أن ينسوا الخطر، تذكرهم الجدران والأسقف المتهالكة به.
«ليس باليد حيلة»، تؤكد منى أن بقاءها في منزل تملكه بمواصفات غير آمنة «ليس انتحاراً وإنما عجزاً. فإذا غادرته كيف أتحمل تكاليف إيجار آخر؟ ومن سيستأجر منزلي إذا عرضته للإيجار؟ إلى أين أذهب؟». تسأل بينما تشتري البصل لتطهو المجدرة، وفي الأكياس التي تحملها علبة صلصة «اشتريتها بثمن بخس لأن مدة صلاحيتها ستنتهي بعد شهر ونصف الشهر».

هجرة جماعية
يلتفّ الخوف والذعر حول رقاب الأطفال أيضاً. لا ينسون الهزّات. في حديثهم، يمرّرون كلمة فالق، هزة ارتدادية، وتسونامي في محاولة لفهم ما يجري. تمشي مجموعة أولاد على الشارع العام، على ظهرها محفظات وفي يدها ملفات زرقاء، خرجت للتو من المدرسة. تبارك (13 سنة) أكثرهم خوفاً، «أخاف من كلّ شيء، وبشكل خاص على أمي وأبي لأن في سقف المنزل فتحات وكسور». يردّ عليها محمد كمن يزايد في هلاك منزله: «وقع سقف الحمام في منزلنا خلال الهزة الأولى، فحملنا أبي وركض بنا إلى بيت عمي ولا يزال الحمام على حاله». يطمئن ابن الـ11 سنة أن والده قرر الانتقال إلى منزل آخر أكثر أماناً في الأوزاعي. أما نضال (12 سنة) فـيتمنى لو يغيّر هو الآخر منزله الذي يهتز بالكامل. توفيت جدته بعدما وقع عليها البناء خلال الزلزال في إدلب فـ«خفت من أن نموت مثلها، نحن أيضاً نسكن في بيت متصدع»، أما البحر فلا يخيفه طوفانه «لأنني أتقن السباحة»، يقول ببراءة.
حصلت هجرة جماعية من الأوزاعي مع توالي الهزات. هناك من فتش عن منزل آخر وهناك من «لجأ» إلى منزل ذويه «حتى الله يفرجها». ومنهم من أطلق ورش الترميم. لكن الفئة الأكبر عاجزة عن القيام بأي خطوة احترازية لوقوع زلزال. ومعرفة من هم الذين يسكنون في الأوزاعي تجعل تصديق العجز أمراً سهلاً. للاجئين السوريين انتشار كثيف في منطقة الأوزاعي الشعبية حيث الإيجارات أقلّ كلفة. لقد هربوا من الموت في الحرب، فيطاردهم الموت في المنفى. وإلى جانبهم، عائلات لبنانية امتلكت منزلاً بطريقة شرعية أو غير شرعية، وما عادت قادرة على الإيجار جراء الأزمة الاقتصادية وأزمة السكن، أو استأجرت منزلاً بسعر مقبول لا تجده خارج الأوزاعي.

بناء شبه مهجور
على كتف البحر بناء لافت للنظر، زهريّ اللون، يحمل صورة طفل، يعود بناؤه إلى عام 1979. هذا البناء على رغم محاسنه وإطلالته الجميلة غير صالح للسكن بحسب إخطار بلدية الغبيري نظراً «للتشققات والتصدعات والشروخ في الأعمدة وأساسات البناء واهتراء الحديد في الأسقف والشرفات الخارجية بما يشكل خطراً على السلامة العامة وسلامة قاطنيه». وبعدما طلبت البلدية إخلاء البناء فوراً، صار شبه مجهور لا تسكنه غير 3 شقق من أصل 14. منهم من غادر قبل الهزّة، ومنهم من غادر بعدها إلى سكن آخر أو تهجّر إلى منزل ذويه. تصعد السلالم المتهالكة، تصل إلى الطابق الأخير حيث تسكن سيدة بنغلاديشية وزوجها الطاعن في السن منذ عشرين عاماً. تخاف أن يقع البناء بعدما تمايل يميناً ويساراً يوم الزلزال، «بس ما أعرف شو أعمل، أفتش على شقة على الأوزاعي بس الشقق غالية».
تؤكد منى أن بقاءها في منزل تملكه بمواصفات غير آمنة ليس انتحاراً وإنما عجزاً


في الطابق الأسفل، تعيش منى مع خمسة أولاد، «سألنا عن بيت للإيجار فلم نجد بأقلّ من 100 دولار كما ندفع هنا». تحاول أن تظهر قوتها وتسلم أمرها لله من دون أن تنسى ما حصل وما قد يحصل. منذ الهزة الأولى تنام العائلة بالحجاب تحسباً لوقوع البناء، فلا يصار إلى انتشال الجثث بلا غطاء، أو الاضطرار للهروب من دونه. تردّد راما (9 سنوات) ما حفظته عن والدتها: «حتى لو غادرنا البناء الذي يخيفني، قد يقع البناء الثاني وهذا يبقى صامداً». أما الابنة الأكبر، رنيم (23 سنة) فـ«أكبر جبانة»، على حد تعبير والدتها. منذ الهزة حتى اليوم لا تقدر أن تغمض عينيها وكلما فعلت توقظ أختها الوسطى، وتقرآن القرآن.
«ما بحك جلدك غير ظفرك»، بهذه الكلمات يلخص أحد مالكي الشقق في العقار محمد علامة قصة البناء مع المسؤولين، لا سيما مع البلدية. يحمّل المسؤولية إلى أصحاب الشقق، «يملك الواحد منهم أكثر من شقة، ويرفضون الترميم معرّضين حياة المستأجر للخطر».



بلدية الغبيري: إخلاء المنطقة واجب!
يستهلّ رئيس بلدية الغبيري معن خليل حديثه عن منطقة الأوزاعي بوصفها: «منطقة خطرة، لن تصمد لوقت طويل، وأي هزة تعرضها للزوال. فهي عمّرت بالماء المالح والحديد المهترئ وعن طريق التعدي والمخالفات، وكان يجب تنفيذ إخلاءات وإزالة المنطقة ككلّ من خلال مشروع أليسار وغيرها لدفع التعويضات وتأمين مساكن بديلة». ويسهب في انتقاده للعشوائيات، فـ«التعدي لم يحصل بفعل التهجير فحسب، بل تمددت الأبنية أفقياً وصعدت طوابق، عدا عن التمادي في قيام مؤسسات وشركات. وقد تضاعف عدد الأبنية غير الشرعية 6 مرات بعد عام 1990 في المنطقة الممتدة بين الأوزاعي وحرش القتيل والجناح، ما يعني أن التهجير من الحرب لم يعد سبباً وجيهاً».
كشفت بلدية الغبيري على 10 أبنية بعد الهزة، بناء على طلب من سكانها. «هناك ثلاثة أنواع من الأبنية المتصدّعة: تحتاج إلى ترميم، إخلاء وترميم، إخلاء وهدم. لا يمكن إحصاء النوع الثالث المسيطر الأكبر على المشهد نتيجة التعدي الواسع على الأملاك العامة بخاصة على جهة البحر من دون تراخيص ولا استشارة مهندسين. تضاف إليها أبنية داخلية بنيت بلا خرائط هندسية لا تحتمل زلزالاً وتشكل خطراً على السلامة العامة، وأبنية استحصلت على رخصة لطابق أو اثنين فصعدت 5 و6 طوابق إضافية أو أكثر».
الكشف الذي قامت به البلدية نظري وغير نهائي، «قمنا بتقييم أولي وأعلنا حاجتنا إلى معاونة شركات متخصصة حيث يفحص الخبراء الفنيون متانة البناء، وتتدخل المحافظة ووزارة الداخلية والهيئة العليا للإغاثة لمواكبة القرارات التي تصدر». من هنا يحمّل خليل الأطراف مسؤولياتها بخاصة مسؤولية الإخلاءات التي تقع على عاتق القضاء.