تضرب العالم فوضى مناخية لم يُشهد مثيلاً لها. ليس هناك من منطقة من العالم لم ولن تضربها الكوارث المناخية أو ما يسمى «المظاهر المناخية المتطرّفة». ارتفاع معدلات درجات حرارة الأرض أكثر من 1.25 درجة حتى الآن، وتوقّع أن تتجاوز الدرجة والنصف الدرجة قبل نهاية القرن. ذوبان الجليد في الأماكن المتجمّدة، وارتفاع منسوب المحيطات والبحار بمعدل 4 ملم كل سنة وتوقّع ارتفاع منسوب سطح البحر بنهاية القرن الحالي بحدود 30 سنتيمتراً، زيادة قوة الأعاصير وسرعة الرياح، زيادة في غزارة المتساقطات وزيادة الفيضانات، ثلوج في الخليج العربي وزيادة الجفاف في أماكن أخرى، زيادة الأعاصير والفيضانات في الولايات المتحدة الأميركية بعد زيادات في الحرائق قبل أشهر، ارتفاع معدلات الحرارة في أوروبا وحوض المتوسط في مثل هذه الأيام التي كانت تصنف بالباردة جداً…كل هذه المظاهر تترافق مع توقع تقرير عن حالة المناخ في أوروبا بأن تزداد الحرارة صيفاً وشتاء وتسجل أرقاماً قياسية كلّ سنة، ولا سيما منذ 8 سنوات، وأن تزيد معدلات الحرارة نصف درجة كلّ عشر سنوات…! وهذا ما يفسّر أن يتأخر فصل الصيف في بلد مثل لبنان إلى كانون الأول، وأن تُراوح معدلات درجات الحرارة لما قبل الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني إلى ما بين 15 و 19 درجة!
بالإضافة إلى كلّ ما ذكرنا، أكدت الدراسات الأخيرة أن كلفة الخسائر والأضرار لنموذج واحد من الكوارث المناخية التي حصلت في باكستان نهاية العام الماضي تتجاوز 30 مليار دولار، وأن الأكلاف السنوية لخسائر وأضرار أكثر أنواع الكوارث المناخية كالفيضانات وارتفاع درجات الحرارة فقط، باتت تقدّر بمئات المليارات من الدولارات، ما بات يطيح بكلّ مكتسبات «التنمية» التي عرفتها البشرية!
في الإطار نفسه، أكدت الجولة الـ27 من المفاوضات الدولية حول تغيّر المناخ التي انعقدت نهاية العام الماضي في شرم الشيخ أن المشكلة أكبر من عدم التزام الدول بتعهداتها، وقد أصبحت خارج الأطر التي تتمحور حولها المفاوضات. المشكلة هي في الأنظمة السياسية والاقتصادية والمفاهيم المعولمة والمسيطرة المولّدة للكوارث. بين هذه المشكلات المسكوت عن تأثيرها المدمر، مفاهيم معولمة ومسيطرة مثل التنمية والتقدّم واقتصاد السوق والرفاهية. ولعلّ المشكلة الأولى، التي لا تخلو منها أي فلسفة براغماتيكية سياسية، أو علم مسيطر، هي مسألة «التأكيد» ولا سيما تلك التي تعتمد مبدأ الحتمية. فكيف يمكن لإنسان يعيش وسط كمّ هائل من الأزمات والكوارث أن يكون أكيداً من شيء، أو أن لا يساوره القلق على كلّ شيء. وأول ما يجب التشكيك به بعد كلّ هذه الكوارث «تأكيدات» أصحاب المصالح الكبرى وأصحاب السلطة والخبراء، لا سيما الدوليين منهم. وأول المفاهيم التي يفترض نزع قدسيتها عنها بعد هذه الكوارث المناخية المدمرة والمكلفة هي مفهوم مثل «التنمية»، التي ترتكز في جوهرها على «الزيادة» في كلّ شيء وعلى حساب كلّ وأي شيء، أو من دون حساب لشيء غيرها، بوصفها زيادة.
لقد أثبتت الكوارث أن كلّ زيادة هي طوفان، تماماً كما يفيض الكأس ويطوف من أية زيادة فيه. وهذا ما يفسّر زيادة الفيضانات حول العالم الناجمة عن زيادة المتساقطات بشكل كثيف، لا بل جنوني. وهذا ما يفسّر تشبيه العلماء لظاهرة أن تمطر في عشر دقائق ما كانت تمطره خلال شهر بـ«الظواهر المناخية المتطرّفة». فالزيادة في المتساقطات الناجمة عن الزيادة في الانبعاثات في الغلاف الجوي، ناجمة بدورها عن الزيادة في استهلاك الوقود الأحفوري والزيادة في إنتاج غاز ثاني أوكسيد الكربون أو الزيادة في استهلاك اللحوم ومنتجات الزراعة الصناعية المكثفة وإنتاج غاز الميتان، وهي التي تتطلّب اقتلاع الكثير من الغابات والتسبّب بتدهور التربة وهدر المياه واستخدام الكثير من الأسمدة النيتروجينية والمبيدات الكيميائية… أو الزيادة في استخدام السيارات الخاصة، أو الزيادة في مساحات العمران والسكن على حساب الطبيعة… أو الزيادة في البصمة البيئية والكربونية بشكل عام.
كلّ ذلك ناجم أيضاً عن زيادات في تراكم وتركز رأس المال المستثمر في كلّ هذه الدوامة المدمرة، التي لن تجد ما يخرجنا ويخرجها منها، سوى التراجع عن هذا النموذج الحضاري المسيطر. ما يعني عملياً، إنتاج تسوية (أو صفقة) تاريخية بين البلدان المصنّفة متقدّمة وتلك النامية، تطلب من البلدان المتقدّمة التراجع عن نموذجها الحضاري التنموي المسيطر والتعويض على البلدان المتضرّرة، في مقابل تنازل البلدان النامية عن مطالبتها بالحق في التنمية (المدمرة) واعتماد نموذج حضاري جديد- قديم أقرب إلى اقتصاد الطبيعة الدائري، على أن يكون جزءاً من التعويضات المطلوبة من بلدان الثورة الصناعية المتسبّبة بالكوارث لتمويل هذا الانتقال الحضاري، من حضارة التنمية وزيادة الإنتاج والاستهلاك واستنزاف موارد الطبيعة إلى الحضارة المتصالحة مع الطبيعة والضابطة لكلّ زيادة غير ضرورية. فهل تنجح دولة الإمارات المتحدّة التي بدأت بإعداد لوغو «الكوب 28» الذي تستضيفه نهاية هذا العام، في وضع هذه الصفقة على جدول أعمال القمة المنتظرة، خصوصاً بعدما أعلنت أن مهمتها فتح حوار بين الدول لتقريب وجهات النظر وإنقاذ المناخ العالمي وتجنّب المزيد من الكوارث المناخية؟