خلال الحروب والأزمات، تتفشّى الأمراض المعدية الناجمة عن تراجع النظافة الشخصية والعامة، مثل أمراض الكوليرا والتيفوئيد واليرقان وأمراض التسمّم الغذائي… كذلك عدوى القمل والجرب… وما يمرّ به لبنان من عجز عن تأمين أبسط احتياجات الناس كالكهرباء والمياه النظيفة يجعل نظافة كلّ من يقيم على الأراضي اللبنانية على المحكّ… وقد انعكس ذلك أصلاً في سلسلة إصابات بالكوليرا واليرقان والتسمّم الغذائي، فهل ينتظر القمل والجرب دوره عند الباب؟ أم أنه دخل سرّاً منذ أن بدأ اللبنانيون يقنّنون أيام الاستحمام أو يستحمّون على عجلة وبالـ«كيلة»؟ أو يبدّلون العلامات التجارية للصابون مفضّلين التوفير على الجودة؟
الاستحمام بـ«الكيلة»
ثلاثة أيام من دون استحمام. هذا هو حال عائلة مؤلفة من خمسة أفراد، انتفضت صيفاً على صاحب الاشتراك الذي تجاوزت فاتورته العشرة ملايين، فقطعته ولجأت إلى تركيب الطاقة الشمسية معتمدة على القرض. منذ بدء العاصفة الأخيرة، وغياب الشمس، كما اختفاء كهرباء الدولة، غابت المياه الساخنة. لا حلّ أمام العائلة إلا بالعودة إلى صاحب المولّد وطلب مدّ اشتراك كهرباء من جديد، أو الاستحمام بـ«الكَيلة»... كما يفعل حتى من هم مشتركون في المولّدات لكن تقلقهم قيمة الفاتورة.
يعود اللبنانيون بالذاكرة عقوداً إلى الوراء، إلى ويلات الحرب الأهلية عندما كانوا يسخّنون مياه الاستحمام على الغاز، ويجرّونها إلى الحمّامات في طناجر، ثم يستخدمون ركوة القهوة والإبريق البلاستيكي لسكبها. عادت «أمجاد» هذه الأيام عندما حلّ الشتاء من دون أن تُحلّ أزمة الكهرباء بما يسمح بتشغيل سخان المياه الكهربائي. تشغيله على كهرباء اشتراك المولّد ليس أمراً ممكناً بالنسبة إلى الكثيرين بسبب ارتفاع الفاتورة. وسخانات المياه على الغاز كادت تكون حلاً بديلاً عن سخانات الكهرباء، حتى اصطدم الناس بحالات اختناق تسببت بها، فعدلوا عن الفكرة.
صيفاً، كانت مشكلة الاستحمام تتوقف عند فقدان المياه والاضطرار إلى شراء نقلات مياه بأسعار عالية، ما دفع كثيرين إلى التقنين والاستعجال في الاستحمام لتوفير المياه. منذ أشهر، حُلّت أزمة المياه في عديد من الأماكن، لكن، عدا عن أن سحبها إلى الأسطح يتطلّب كهرباء، أدخل الطقس البارد تحدياً ثانياً وهو: كيف أؤمن مياهاً ساخنة؟ فـ«كهرباء الدولة» إن أتت يوماً بعد يوم تكون لساعة واحدة لا تكفي ليحمى السخان. سارة، اعتادت على الاستحمام بالإبريق لأنه «ليس هناك حلّ آخر إلا أن نتعفن». منذ فترة، «جاءت كهرباء الدولة لساعتين متتاليتين، فشغّلت السخان وعندما دخلت لأستحمّ بالدوش الساخن استغربت وكأنها المرة الأولى».

شرّ لا بد منه
الاستحمام بـ«الكيلة» شرّ لا بدّ منه. فهو من ناحية يصعب عليه تحقيق نظافة تامة خاصة للنساء ذوات الشعر الكثيف، ومن ناحية ثانية يزيد الشعور بالبرد خلال ملء «الحلّة». تغريد مثلاً، تنزل من الجنوب إلى منزل أختها في بيروت عندما تريد أن تصبغ شعرها، فـ«الصبغة تحتاج إلى مياه ساخنة كثيرة، وأنا أستحم على عجلة بالإبريق ولا أستطيع تشغيل السخان على كهرباء المولد». إلى ذلك، قد تتسبب تعبئة المياه الساخنة وتفريغها بحوادث الاحتراق. تروي سماح كيف «احترقت منذ أيام بينما كنت أحمل طنجرة المياه الساخنة إلى غرفة الاستحمام، تعلّمت بعدها أن أمشي على مهل وألا أملأها كاملة».
يعود لبنانيّون بذاكرتهم إلى أيام الحرب وتسخين المياه على الغاز


الاستحمام شتاء سيف ذو حدين. إما يعكس مشاعر التضحية والتفاني بين أفراد العائلة، كما يفعل حسين الذي يترك مياه السخان لزوجته الحامل ويستحم هو بالركوة، أو صلاح وزينب اللذين «يضحيان» بمياه السخان لابنتهما المولودة حديثاً «حتى لا تبرد». من جهة ثانية، قد يتسبّب بنزاعات بين الأخوة على مياه السخان التي تتفوّق على المياه التي تسخّن على الغاز.

خطر القمل
إذا قرّرت عائلة أن تشغّل السخان على كهرباء الاشتراك، تحسب حساب كلّ دقيقة لأنها تترجمها دولارات تقتطع على الفاتورة. لذلك، يشغله البعض لوقت قصير فيكون الاستحمام على عجلة، أو يقنّنون في أيام الاستحمام بغية التوفير خاصة عندما تكون العائلة كبيرة. ما يعني أنه مهما كانت الحلول المجترحة، فإنها تقود إلى خطر قلة النظافة: القمل والجرب. وهذا الخطر لم يعد بعيداً…
بعد استمرار الحكة الشديدة، بحثت سيدة في شعر ابنتها و«صعقت» عندما وجدت حشرات سوداء. لم يكن الاعتراف أنها قمل سهلاً خاصة أنها تعيش التجربة لأول مرة، وتخجل أن تطلب من الصيدلي دواء للقمل. تراجع نفسها وتدرك أنها «أخطأت عندما تقشفت في استحمام ابنتها ظناً منها أنه لا يوجد تعرّق في هذا الطقس». ثم تتذكر أن الصابون الذي تشتريه «لا ينتج رغوة كافية لكنني طنّشت ذلك لأنه توفيري».
لا يمكن الحديث عن موجة قمل بعد، علماً أنه يصعب إحصاء الحالات المصابة بالقمل لأن الصورة النمطية ترتبط بالوسخ وقلة النظافة، علماً أن «رأساً مقملاً» واحداً قد ينشر العدوى إلى رؤوس صف بكامله. تقول معلمة في طرابلس إن «الناس تخجل أن تعترف بإصابتها بالقمل، لكننا نلاحظ ذلك في المدارس ولا سيما في صفوف الأولاد».