اللغة تعبير عن حضارة الشعوب الناطقة بها، تعيش وتنمو بتطوّرها. واللغة العربية عرفت تطوراً وانتشاراً، ابتداءً من القرنين السابع والثامن الميلادي، حيث انتشرت في مناطق الحكم الإسلامي وبلدان المشرق والمغرب، واستخدمتها شعوب كانت متقدّمة عليها حضارياً، مثل الفرس. وإنجازات الحضارة العربية في مجالات الفلك والطب والرياضيات والدراسات اللغوية والموسيقى (الأندلس) وغيرها، إضافة إلى انتشار الدين الإسلامي، كل ذلك جعل شعوباً متنوعة تستعمل اللغة العربية، أو على الأقل الحرف العربي، مثل الفرس والأتراك، حتى وقت قريب.هذا يعني، بحسب الباحثة التربوية سهام أنطون، أن اللغة تكون قابلة للحياة عندما تكون الحضارة التي تحملها حيّة. "فاللغة التي لا تبدع ولا تنتج فكراً وعلوماً، تتراجع وتخسر من أهميتها وانتشارها".
تتماهى أنطون مع ما قاله المنظّر الأدبي الفلسطيني ـ الأميركي، إدوارد سعيد، لجهة أن «اللغة العربيّة لغة ثريّة، ولغة مرنة ومتأقلمة! أعظم كتابات الإغريق العلميّة والفلسفيّة على غرار أرسطو انتقلت إلى الغرب عبر الترجمات العربيّة، وهكذا وصلت إلينا، وهذا الحسّ باللغة يوحّدنا، لأنّها لغة الدين والحياة اليوميّة ولغة المجاملة والمجتمع وإمكاناتها غير محدودة». إلا أننا اليوم لسنا في موقع المواجهة الحضارية، كما تقول، «إنما مطالبون بتذليل تحديات تعليم العربية، وجعلها محبّبة لدى الناشئة الذين تُفرض عليهم شيفرات البرمجة، كلغة تواصل سريعة».

تحديات «العربية»
الكلام عن الصعوبة لا يأتي من عبث، فهي موجودة، تقرّ أنطون، «وتكمن خصوصاً في ثنائية المحكي والمقروء، وفقدان الناطق باللغة العربية للكثير من الألفاظ المرتبطة بالعلوم، حتّى المستخدمة منها في الحياة اليوميّة، لأنّ الإنتاج العلمي والفكري في مجالات الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعيّة والتكنولوجيا وغيرها، وكذلك تعليمها في بلداننا، يجريان بلغات أجنبيّة، فتشيع مثلاً في لبنان ألفاظ test/scanner/mouse/chargeur.. بدلاً من مسحة/ أشعة/ فأرة/ شاحن..».
إلى ذلك، يجد التلامذة صعوبة في إتقان قواعد اللغة العربية بسبب كثرة الاستثناءات و«الشواذات» في الإعراب مثلاً، وهذا الأمر لا يتعلق بـ«العربية» فحسب، إنما باللغات القديمة، فعمر اللغة العربية يعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، وهي واحدة من أقدم ثلاث لغات لا تزال حية وناشطة، بصورتها الأساسية، حتى اليوم. بل إن هناك لغات أحدث من «العربيّة» مثل «الفرنسية» أو «الإنكليزية»، تعاني من التحدي نفسه. المشكلة، برأي أنطون، هي في فاعلية عمل مجامع اللغة العربية «التي لا تلاحق تطوّر الحياة الحديثة وتبني عليه تعديلات وألفاظاً جديدة، وإذا فعلت ذلك، يكون ما تقدمه أحياناً غريباً، وغير متناسب مع تطوّر الحياة والمجتمع (مثل اقتراح اسم الشاطر والمشطور وما بينهما للتعبير عن السندويش)، وهي لا تعمل على تبسيط القواعد وحذف الاستثناءات، واعتماد الشائع وتعميمه، بل تختلف في ما بينها، وتصدر تعديلات متناقضة أحياناً فتتباين مثلاً، بعض قواعد كتابة الهمزة بين ما هو معتمد في مصر وما هو معتمد في بلاد الشام». تقارن أنطون هنا بين عمل المجامع العربية ومجمع اللغة الفرنسية مثلاً الذي يصدر بشكل متواصل تعديلات تخفّف من الاستثناءات والتحديات التي تواجه التلامذة، فقد حذفوا مثلاً، في تعديل واسع جرى أخيراً، عدّة أحرف تُكتب ولا تُلفظ، وخفّفوا من كتابة بعض الإشارات مثل «الأكسان» (accent) وغيرها. «قوة اللغة العربية لأنها لا تحتوي على حروف تُلفظ ولا تُكتب أو تُكتب ولا تُلفظ كما في اللغات الأخرى».
يجب أن يتمكن المتعلّم في النهاية من إبداء رأي أو مناقشة فكرة مشافهة أو كتابة


جهود فردية
بعض الإحساس بصعوبة اللغة يعود أيضاً، وفق أنطون، إلى طرق تعليمها الجامدة، «فالحضارات الحيّة تبدع باستمرار وسائل لتسهيل تعليم الاستثناءات، من خلال تبويبها وتدرّج تعليمها وتقديمها بطرق ناشطة وفاعلة، أو إلغائها وتعديلها». تشير مثلاً إلى جهود المراكز الثقافية في لبنان، إذ تنظّم بصورة دوريّة دورات تدريبية، وتصدر كتيّبات مساعدة للمعلمين وتغرق المدارس بوسائط تعليم سمعية بصرية، في حين يجد معلمو «العربية» أنفسهم مجرّدين من أي طرق حديثة وموارد رقمية.
مع ذلك، يقتصر تطوير الطرق والأساليب على مبادرات فردية وعفوية، وليست، في أي حال، نتيجة سياسات دول ناطقة بهذه اللغة، لدرجة أن معلمي اللغة العربية يشعرون أنها لغة يتيمة، فلا من يرعى شؤونها ولا من يتابع ويحمل همّ تطوير تعليمها.

القواعد الوظيفية
في هذا السياق، تتحدث التربوية إيمان حنينة عن مبادرة قامت بها لتبسيط نصوص القراءة ورقمنتها في الكتاب الرسمي من خلال اختصارها، وجعلها محبّبة لقلوب الصغار، بما يحافظ على أحداث النص، والغاية المتوخاة منه، من دون أن يلقى ذلك أي اعتراض من المفتشين التربويين.
ميزة اللغة العربية أنها تحتضن، كما تقول، «سمات السلاسة والسعة والسهولة من خلال الاشتقاق والترادف والإيجاز، وذاك التناسق الصوتي بين ثلاثة صوائت قصيرة وأخرى طويلة، يدخل من خلالها الطفل في نسق صوتي منتظم في عالم الحروف»، إلا أن «الخلل الأساسي، تعليمياً، يكمن في (كيف) يتم تقديم المادة وما هي الطرائق المستخدمة، وما هي فعاليتها ومدى استمراريتها، لتأتي بعدها (ماذا)، والمتعلقة بالنص وموضوعه، وحجمه، ومدى جذبه لاهتمام التلامذة، إضافة إلى إقحام اللغة في تفاصيل نحوية وصرفية وإملائية تصرف الاهتمام عن المهارات الأساسية، ناهيك عن المبالغة في الأسئلة والتمارين، فتبقى فضلة الوقت للتعبير».
وتسأل حنينة: «ما الغاية من كلّ ما سبق إذا لم يتمكن المتعلّم في نهاية المحور من إبداء رأي أو مناقشة فكرة أو التعبير عن حالة شعورية مشافهة أو كتابة؟ فالقاعدة المعرفية المبسّطة تفتح، كما تقول، ممراً نحو القواعد الوظيفية، «فلا مبرّر لأن يتعرف المتعلّم إلى كل أنواع الفعل المعتلّ وأسمائه»، مشيرة إلى أن «المبالغة في التقعيد تؤدي إلى التعقيد وتحول دون نسج علاقة وجدانية مع اللغة العربية». وترى حنينة أن التحصيل يتأتّى مع التبسيط والتيسير ومخاطبة التلامذة وفق مستوياتهم وقدراتهم العقلية. وتبدو مقتنعة بأننا «نستطيع أن نفعل الكثير في الإمكانات المحدودة بين أيدينا، إذ إن تنقّل المتعلمين بين مهارات التواصل الشفهي إصغاءً وتعبيراً يجعلهم محور العملية التعليمية بحق. ففي تعليم العربية، يمكن المتعلم أن يغني، ويقرأ الطرائف، ويرسم، ويقدم المشاهد المسرحية، وينتج مواردَ رقمية بسيطة، ضمن منظومة أهداف تربوية وطنية قوميّة يضعها أهل الوطن، من دون إملاءات أو تدخل خارجي».

نقاط القوة
الباحث في اللسانيات واستراتيجية تعلّمية اللغة العربية، حسين عبد الحليم، يوافق على أن اللغة العربية كائن حيّ، وهي أبعد من كتاب قواعد أو جدول علامات. ورغم كلّ الواقع السيّئ، يبدو مطمئناً إلى مستقبلها، بالاستناد إلى بعض المؤشرات وعناصر القوة، ومنها تزايد المحتوى اللغوي العربي على الشبكة العنكبوتية، منذ بداية العولمة. «صناعة المحتوى في النصوص والأفلام وما تحتاج إليه من إتقان لألوان اللغة ومهاراتها ستكون محفّزاً للتداول باللغة العربية وانتشارها». ويعتقد عبد الحليم أن الاهتمام الأمني، أو التجسّس والتحليل اللغوي للنصوص المتداولة طوّر خدمات المعالجة الحاسوبية والترجمة الآلية، وانعكس ذلك على انتشار اللغة العربية وقوة الخدمات الداعمة لها.
للغة العربية، كما يقول، ميزات خاصة بها تساعدها على البقاء والانتشار، وإقناع العلماء اللغويين من خارجها، بها لكونها غنية بالمفردات، إذ تضم 12 مليون مفردة، في وقت لا تتجاوز فيه المفردات في لغات أخرى الآلاف. وبرأي عبد الحليم، اللغة العربية قابلة للابتكار ومجاراة العصر، وأقدر على البقاء في خضمّ تراجع وضعف اللغات الأخرى. «فاللغات مثل الفرنسية والإسبانية والصينية والإنكليزية قوية بقوة الإمبراطوريات والدول التي حملتها، وليس في القيم التركيبية والمعجمية. أما اللغة العربية فهي انتشرت عندما كان أهلها أقوياء، وهي تنتشر اليوم وأهلها ضعفاء، وذلك يعود إلى أن قيمها الذاتية تساعدها على البقاء».