لا تجد المستشفيات الخاصة في لبنان طريقة لتحصيل مستحقاتها من الصناديق الضامنة سوى ابتزاز المرضى. قبل أيامٍ، فتحت هذه الأخيرة باب المواجهة مع وزارة الصحة العامة، واضعة إياها أمام المعادلة التالية: إما أن تدفع الوزارة ما في ذمّتها، وإما أن تتوقف المستشفيات عن استقبال مرضى الوزارة. لا خيار ثالث متاحاً، فقد رسم بيان نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة الصادر أواخر الأسبوع الماضي، مسار التعاطي مع مرضى الوزارة- ما بعد الدخول في المحظور- عبر تجريدهم من حقوق «الدعم»، وتدفيعهم ثمن علاجاتهم. ولعلّ أكثر المعنيين بهذا القرار، فيما لو نُفّذ، هم مرضى غسيل الكلى والمرضى الذين يتلقون علاجات كيميائية، لأن المستلزمات والأدوية التي تستخدم في علاجهم لا تزال مدعومة.

في انتظار المرسوم
بعد هدنة طويلة نسبياً، عادت المستشفيات الخاصة إلى التصعيد، علماً أن مشكلتها تطال كلّ الصناديق الضامنة بلا استثناء، إلا أن المشكلة الأكبر اليوم هي مع وزارة الصحة العامة. ويعود السبب إلى العقد الذي وقعته الوزارة مع المستشفيات عن عام 2022، كي تتمكن بموجبه من تسديد المستحقات العائدة لها، والذي يتضمن زيادة التعرفات الطبية والاستشفائية التي رُصدت من ضمن الموازنة الجديدة. فالتوقيع الذي سار بأريحية بين الطرفين، لم يسلك طريق التنفيذ مع انتهاء الولاية الرسمية للحكومة قبل إتمام الخطوة الأخيرة المتعلقة بصدور مرسوم يجيز دفع المستحقات. وفي ظلّ استحالة صدور هذا المرسوم مع حكومة تصريف أعمال، ومن دون رئيس للجمهورية، فإن العقد لا يعدو كونه ورقة بلا مفاعيل.
اليوم، تريد المستشفيات الخاصة من الوزارة بدل طبابة وخدمات عن العام الحالي على أساس العقد الأخير، يُضاف إليها مبلغ ألف مليار ليرة عن عام 2020 لم تُفرج عنه وزارة المالية حتى اللحظة. من دون تحصيل هذه المبالغ «سنضطر لسلوك المحظور»، يقول نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون. والمحظور هنا «تدفيع المرضى فروقات، وهذا يطال بشكل كبير مرضى الكلى خصوصاً أن المستلزمات الخاصة بهم لا تزال بمجملها مدعومة»، مشيراً إلى أنه في حال سُدّت الأفق «فإننا مضطرون لتحصيل ثمن العلاجات منهم، إذ إننا ندفع شهرياً ثمن المستلزمات والأدوية ولا نحصل بالمقابل على أي شيء». وبحسب هارون، توصل هذه المعادلة غير المتكافئة إلى «مطالبة المريض في الفترة المقبلة بدفع هذه الأكلاف، ولا أظن أن مريض الكلى يستطيع تحمّل دفع تكاليف غسل الكلى التي تقدر شهرياً بنحو 30 مليون ليرة».

مسؤولية المستشفيات الأخلاقية
على قاعدة «اللهمّ اشهد أني قد بلغت»، رمت نقابة أصحاب المستشفيات الفتيل، وهي تعرف بأنه ليس في يد وزارة الصحة أية حلول، إذ يشير مدير العناية الطبية في الوزارة، جوزف الحلو إلى أن «ما يمكن أن تفعله الوزارة قد فعلته، فقد وُقّعت العقود وحُوّلت إلى ديوان المحاسبة، واليوم الأمر يحتاج لمرسوم من مجلس الوزراء». وفي ظل استعصاء الحل المتمثل في صدور المرسوم الذي يجيز دفع المستحقات، كيف يمكن تجنيب المرضى النتائج الآتية؟
أكثر المتضرّرين من القرار مرضى غسيل الكلى والذين يتلقون علاجات كيميائية


قبل الدخول في ما قد تجيزه القوانين، ثمة مبدأ أساس يتعلّق بمسؤولية المستشفيات عن قرارها. مسؤولية يفصلها المحامي جاد طعمه إلى جزأين: الجزء الأول أخلاقي «ويتعلق بمدوّنات السلوك ومهنة الطب وأساس قيام الصروح الطبية الذي يقوم على إغاثة المريض قبل النظر إلى الأرباح»، والجزء الثاني متعلق بسلوك المستشفيات، وتحديداً ما يخصّ بيانها الأخير الذي يضعها، بحسب طعمه، «تحت طائلة ارتكاب الجرم الجزائي»، وهو الذي يتدرّج من «جريمة الامتناع عن إغاثة شخصٍ بحال الخطر ما يترتّب عليه مسؤوليات جزائية، مروراً بجرم آخر هو التسبّب بالوفاة لهذا الشخص، ويتوّج بجريمة القتل مع القصد الاحتمالي». وبما أن «مرضى غسيل الكلى ومرضى السرطان هي حالات ساخنة، فبحكم القانون لا تستطيع المستشفيات المخاطرة بحياتهم والامتناع عن استقبالهم».
مفاد هذه التوصيفات الثلاث أن المستشفيات ليست في الموقع الآمن لتواجه صندوقاً ضامناً بمريضٍ على حافة الخطر. وهذا محسوم بحكم القانون. أما فيما لو أصرّت المستشفيات على موقفها؟ فعندها الحلّ الموجود هو «نظرية الظروف الاستثنائية في القانون الإداري، فبعد توقيع العقود ما بين وزارة الصحة والمستشفيات، لا تستطيع الأخيرة أن تتذرّع بعدها بعدم وجود حكومة (مرسوم)، لأنّه مع تشكيل الحكومة الجديدة يتمّ قبول العقود على سبيل التسوية، طالما أن المبالغ مرصودة في الموازنة». وهذا يعني، بالمبدأ والقانون، لا يمكن للمستشفيات أن تحارب بالمريض، وإن كانت اليوم تخسر من أرباحها.