في تمام العاشرة من صباح 14 تموز 2006، تلقّى مسؤول «الإعلام الحربي» في المقاومة اتصالاً من الشهيد عماد مغنية لطلب مهمة. «باقر... جهّز أغراضك»، يقول المسؤول للمصوّر المعني. يتابع: «الهدف بعيد» ليوضح للمصوّر ما يستلزمه ذلك من معدّات خاصة مثل تحديد العدسة وغيره من التجهيزات المطلوبة. يُكمل: «عنّا مهمة بدّا وقت وصبر. بدّك تغيب. في الطريق نُخبرك نوع المهمة». لم تمرّ دقائق، حتى وصل شاب من جهاز البحرية في المقاومة لنقل باقر من الضاحية الجنوبية باتجاه الخطّ البحري لمدينة بيروت وصولاً إلى منطقة الروشة. أوقف الشاب السيارة، أشار بإصبعه إلى البحر وقال: «شايف هيديك؟»، ردّ باقر: «شو هاي؟». «هيديك البارجة يلي هونيك»، ثم خفض صوته، «هيدي اليوم بدنا نضربها». شعر باقر بصدمة استمرّت لدقيقتين لاستيعاب الأمر. ترجّل من السيارة إلى الرصيف مقابل صخرة الروشة، قائلاً للشاب: «هيك عالطريق؟». هزّ الأخير برأسه، وسلّم باقر جهاز اتصال. «ستتلقّى منه اتصالاً واحداً من المسؤول الميداني: بيّك بالمستشفى بخير وبسلّم عليك. عند سماعك هذه العبارة، يعني معك ربع ساعة».
تمركز باقر في مقابل صخرة الروشة. قام بتركيب كاميرته، وبرمجة إضاءتها مع الضوء الخارجي والهواء. بحث عن البارجة، «وجدتها والعلم الإسرائيلي يرفرف فوقها». قام بمراقبة حركة البارجة وسرعتها، لاتخاذ الزاوية الأفضل في التصوير. لاحظ أن دائرة حركة البارجة كانت ضمن مساحة محدّدة، فركّز عدسته وفقاً لذلك. تنقّلت عدسة مصوّر «الحربي» بين البارجة ومطار بيروت، لكثرة المستفسرين الذين أوقفوه لمعرفة ما يُصوّر، فكان يقول إنه يتحسّب لضرب المطار ما شكّل حجّة مناسبة. خلال فترة الانتظار كان باقر يخشى من الإخفاق في توثيق اللحظة، «وعندها يمكن للعدو أن ينكر العملية لولا المشاهد المصوّرة».

الله يهدّ البارجة!
انتظر تحت حرارة شمس تموز لساعات. في تمام الساعة الثانية بعد الظهر، أقبل رجل عجوز يرتدي ثياباً جنوبية تراثية، «عقال» و«شروال»، ودار بينهما حديث قصير:
- «شو عم تعمل يا ابني؟»
- عم بتفرّج عالبحر.
- «بتعرف هاي البارجة يلي هونيك شو عملت فينا؟»، بلهجة جنوبية خالصة وغصّة يقول: «إجت ليْنا قبل الـ82، وبالـ82، عملت حصار وقصف وهلكتنا. وإجت ليْنا بالـ93 والـ96، وبكل مشكل مع الإسرائيلي تقصف فينا وتقطعلنا طريق الجنوب. الله يبعتلا حدا يهدّا...».
ذهب الرجل السبعيني وأكمل طريقه، وسيطرت الدهشة على باقر من هذه الصدفة المتمثّلة بما تمنّاه الرجل في تلك اللحظة. المواقف الغريبة التي حصلت مع باقر في تلك الساعات كانت كثيرة، ومنها طلب إحدى الوكالات الأجنبية تصويره، واستفسار سيّاح عرب عمّا يقوم به، وحضور أجهزة أمنية. لكنّ الروح المرحة لم تفارقه رغم الضغوط. أقبل فتى صغير لم يتجاوز الخامسة من عمره وقال له: «عمو خود 500 ليرة وخليني اتفرّج». فما كان من باقر إلا أن ردّ ممازحاً: «لم أفتتح هنا برج إيفل بعد!». حمل المصوّر الفتى وسمح له بمشاهدة المطار عبر الكاميرا.
مرّت الساعات كالسنوات على باقر، والشمس أشرفت على المغيب. تَغيُّر الوقت يعوّق التصوير بالمعدّات المتوفّرة، ويتطلّب جهداً إضافياً في الرصد. لا طعام ولا شراب، لا راحة، ولا جلوس. جهوزية تامة ممنوع أن تُقطع. كانت مسافة ابتعاد البارجة عن صخرة الروشة مَعلماً في حال تحرّكت القطعة أو حلّ الظلام. أخيراً حانت اللحظة المنتظرة. رنّ هاتف باقر، لكن مضمون الرسالة تبدّل، «افتح إذاعة النور».

انظروا إليها تحترق
«سمعتُ صوت سماحة السيد في بداية كلمته. توقف التفكير، تجمّد العقل في لحظة واحدة. بعد كلّ ساعات الانتظار واستفسارات المارّة التي لا تنتهي. رأيتُ صاروخين قادمين من جهة الشمال، رأيتهما بعين مجردة، وبالعين الأخرى التي كانت على الكاميرا». رنّ الهاتف مرة أخرى: «مشي الحال؟»، أجاب باقر بغصّة الفخر «أي». «أكيد؟ أكيد. يعطيك العافية».
ثبّت باقر عدسته لتصوير أي ردة فعل محتملة. لم يحصل شيء. كانت صدمة العدو أبلغ من أيّ رد. سمع باقر السكّان وهم يصرخون فرحاً حين قال السيد حسن نصرالله: «الآن في عرض البحر...». وكان صوته مباشرة على الهواء دحضاً حاسماً لكل الإشاعات التي انتشرت آنذاك، ضمن الحرب النفسية، عن تعرّضه للاستهداف.

عودة إلى عام 1987
رجعت بي الذاكرة في تلك اللحظة، يقول باقر، إلى عام 1987، يوم تنفيذ العملية البحرية الأولى للمقاومة، واستهداف زورق للعدو الإسرائيلي. «حضر أمامي شهداء البحرية. كنت معهم يومها. كانوا أصدقائي. كنا لا نزال بالمئات في المقاومة لا مئة ألف كما اليوم. استعدت خطواتهم وهم ينزلون إلى المياه في عرض البحر. قبّلوني، سألوني إن كنت أحتاج إلى شيء. ما الذي يمكن أن أحتاج إليه من استشهاديين؟! هؤلاء استشهاديون لا شهداء. ذهبوا وهم يعرفون أنهم سيستشهدون، وهم فتية في أول العمر. رأيتهم يغادرون. رأيت آخر جزء منهم كيف غاب في البحر. شهداء البحر لا صخرةٌ ولا وادٍ ولا شجرةٌ تؤويهم. يقول السيد عباس الموسوي: «شهيد البحر بشهيدين». تذكّرت الدمار، والحصار. سمعت صوت تحطّم التسلّط والعنفوان الإسرائيلييْن. تذكّرت الرجل السبعيني، ماذا سيكون شعوره الآن؟ أذلّت المقاومة البارجة المتغطرسة. شعرت بنشوة الانتصار، أردت في تلك اللحظة تقبيل أيدي المقاومين. عندما رأيت البارجة تشتعل، تذكّرت كل ذلك. تلك اللحظة لا تشبه أي لحظة في الحرب».

في عام 1987 نُفّذت العملية البحرية الأولى للمقاومة مستهدفة زورقاً للعدو الإسرائيلي

تاريخيّاً، اعتاد العدو على ممارسة الحصار البرّي والبحري والجوي على لبنان. وكان في خلال ذلك مرتاحاً جداً. ابتداءً من عام 1982 إلى عام 2006، بقي بحر لبنان تحت رحمة العدو وسطوته. استطاع الإبرار عبر الساحل والإطباق عليه، لكنّ ضربة «ساعر 5» غيّرت المعادلة إلى ما لا يشتهي العدو. هشّمت المقاومة أهم قطعة في سلاح البحرية الإسرائيلية، لما تملكه تلك البارجة من منظومات تكنولوجية وتسليحية هي الأكثر تقدّماً والأغلى ثمناً آنذاك، ومضادات للطائرات والصواريخ. تعرّض كيان الاحتلال لصدمة كبيرة، لم يتوقع أن لدى المقاومة من الشجاعة والقدرة العسكرية لاستهداف «درّة تاج سلاحه البحري».
يشكّك أحد ضباط المقاومة في رواية «تعطّل» أحد رادارات البارجة عند استهدافها والتي روّج لها العدو، «البحر منطقة اشتباك، هل يعقل لجيش محترف أن يُبقي على رادار معطّل في الحرب»؟ لا تحتاج معادلات الردع إلى قدرات عسكرية متساوية بين الطرفين، في الحجم والعديد والنوع. يُعدّ توازن الردع البحري مختلفاً من نوعه، وهو قدرة الحزب البحرية الهجومية غير التقليدية القادرة على ردع العدو. يكفي أن يكون لدى الطرف المُعتدى عليه ما يعطّل حركة المعتدي. وعلى قاعدة «فذكِّر إنْ نفعت الذكرى»، أعاد السيد نصرالله العدو إلى حادثة استهداف البارجة بوضع جناح الصاروخ الذي استهدفها خلفه في حوار «الأربعين» على قناة الميادين.

الحصار البحري
بدأ العدو بإنشاء قوّته البحريّة منذ السنوات الأولى لإنشاء جيش الاحتلال، وراح يطوّرها لامتلاك قدرات تُمكّنه من «الدفاع» عن الشواطئ الفلسطينية المحتلة والقيام بعمليات عسكريّة خارج المياه الإقليمية لفلسطين المحتلة. وقد استطاع امتلاك القدرات التي مكّنته من فرض حصار على كامل الشاطئ اللبناني، أكثر من مرة خلال المواجهات مع المقاومة. وكان الحصار الأشد والأقوى عام 2006، حيث فرض العدو حصاراً محكماً من الناقورة إلى مقابل البترون، وزرع الخافرات البحرية على مقربة من الشاطئ بمسافة لا تتجاوز في بعض الحالات 3 إلى 5 أميال. إحكام الحصار يعني منع اتصال لبنان بالعالم الخارجي عبر البحر، والمساندة النارية في استهداف المناطق. خرقت المقاومة الحصار، فأراحت منطقة جغرافية واسعة في بيروت وضواحيها من النيران. أُربك العدو وعُقّدت مهمته في البحر، وهو مذّاك، لا يجرؤ على الاقتراب من الحدود السيادية البحرية للبنان (أقل من 15 ميلاً). حرّر الاستهداف حركة المقاومين، بشكل أو بآخر، خاصة في الليل، في بعض المفاصل على الطريق الساحلية. وممّا قاله أحد المعلّقين الإسرائيليين: «عندما ضرب حزب الله البارجة أسقط سلاح البحرية الإسرائيلية بأكمله».

المعادلة البحرية
وضع حزب الله نصب أعينه معادلة البحر منذ اليوم الأول، وبدأت أولى عملياته البحرية عام 1987. البحر يعني الذهاب إلى الموت. هو معركة بحدّ ذاتها. سبل الحماية معقّدة. المقاوم هناك ذاهب، غالباً، إلى الاستشهاد. الإصابة تعني الغرق. بحسب الإعلام العبري، تعاظمت القدرة البحرية لحزب الله بشكل كبير بعد حرب تموز. وفقاً لتقديرات العدو، يمتلك الحزب، إلى جانب الصواريخ التي تخوّله استهداف أيّ هدف في البحر، غواصات وغواصين متدربين، وقدرة على التحكّم عن بعد بروبوتات تحتمائية، وقدرة على الاستيلاء على الأهداف البحرية واستخدام العبوات الناسفة، وعلى الإبرار لتنفيذ عمليات، وصولاً إلى معادلة ما بعد بعد كاريش التي أرساها الأمين العام لحزب الله.
تقدّم رجل سبعيني من مصوّر عملية استهداف البارجة ودعا أن يأتي من «يهدّها»


بدأت المقاومة بتشكيل الملف البحري منذ السنوات الأولى لانطلاقتها، وشارك ضباطها في دورات تأهيل وتدريب عالية المستوى في هذا المجال. لم تتوقف عمليات المقاومة البحرية منذ عام 87، ولكن اختلفت وتيرتها ونوعها. هل يوجد استشهاديون في البحر لم تعلن عنهم المقاومة؟ هل توجد عمليات لم نسمع بها؟ يخشى العدو اليوم من مفاجآت مشابهة لضرب «ساعر 5». تغيّرت المعادلة، وتجذّرت المقاومة أكثر في عملية تسليح منظومة الدفاع البحري، ومنها منظومة المراقبة والترصّد والرادارات وقواعد الإطلاق. يعرف العدو جزءاً ممّا تمتلكه المقاومة في البحر، والجزء الأكبر لا يزال مجهولاً، محمياً بتكتّم وسريّة المقاومة. استخدم العدو أسلحته المتطوّرة لساعات لاعتراض مُسيّرات المقاومة فوق كاريش. ماذا سيفعل عند إطلاق واحدة أو أكثر من المسيّرات غير الاستطلاعية؟ وما هي مفاجآت البحر التي تخفيها المقاومة؟