تعدّ اللقاحات من أبرز الاكتشافات الإنسانية. ساهمت في زيادة مدّة حياة الإنسان عبر تقديم الحماية اللازمة من أمراض كانت تعدّ في ما مضى مميتة. تعمل على تحفيز الجهاز المناعي في الجسم لإنتاج أجسام مضادّة لأيّ دخيل، سواء كان فيروساً أو بكتيريا، عن طريق تعريف الخلايا المناعية عليه بطريقة مخفّفة تسبّب فقط ردّة فعل مناعية بسيطة. تؤدي لاحقاً إلى إنتاج ما يُعرف بخلايا الذاكرة المناعية. ومهمتها حفظ الخطر، وكيفية التعامل معه كي تستعمل هذه المعرفة في أيّ لقاء لاحق. لقاح الجدري، أوّلها، اكتشف سنة 1796 بالمشاهدات لا بالاختبارات. كان الأطباء يلاحظون أنّ عاملات حلب الأبقار تنمو لديهنّ بعض البثور نتيجة للعمل بالقرب من حيوانات مصابة، ولكن لا يقتلهم مرض الجدري أو يسبّب لهنّ عوارض شديدة. عندها قام الطبيب البريطاني إدوارد جينير بعزل السّوائل الخارجة من بثور أبقار مريضة بالجدري، ووضعها على جسم طفل ليجد بعد فترة أنّه لا يصاب بالجدري مع التعرّض لمسبباته. هذا الفتح الأول، عرف يومها بالـ inoculation أو التحصين.
استمرّ العمل بهذه الطريقة لمحاربة مرض الجدري حتى عام 1885. في تلك السّنة، قام لويس باستور بإنتاج أوّل لقاح يحتوي على العامل المسبّب لمرض الكلب rabies (فيروس مخفّف) وتجربته على طفل عضّه كلب. نجا الطفل، فقام باستور بحقنه مجدداً بالفيروس غير المخفّف فلم تتطوّر لديه أيّ من عوارض المرض الشديدة. ففتح الطريق لخط علمي جديد: علم المناعة.
ثلاثة أجيال
هذه العلوم الجديدة دفعت الإنسانية قدماً نحو إنتاج لقاحات لأمراض مختلفة، فبعد الجدري والكلب جاءت لقاحات الكوليرا والطاعون وغيرها من الأمراض. حتى وصلت الإنسانية إلى درجة القضاء على بعض الأمراض نهائياً مثل شلل الأطفال بفضل علم اللقاحات وتطوره.
تنقسم اللقاحات إلى ثلاثة أجيال، تختلف في ما بينها بالمحتوى، وتجتمع على إعطاء الجسم المناعة اللازمة لمواجهة فيروس أو بكتيريا معيّنة. الجيل الأول من اللقاحات يقوم على إدخال العامل المسبّب للمرض (فيروس أو بكتيريا) إلى داخل جسم الإنسان. ولكن بشرط أن يكون هذا العامل غير فعّال بشكل كامل، فلا يتسبّب بالمرض بل بردة فعل مناعية تنتج أجساماً مضادة لازمة لمحاربة الفيروس أو البكتيريا في أي لقاء ثانٍ مع الجسم. أشهر هذه اللقاحات: لقاح الجدري، الحصبة وشلل الأطفال. ومشكلة هذا النوع من اللقاحات الأساسية هي عدم قدرتها على مواكبة أي تغيّر يطرأ على الفيروس في حال تحوّره. وهذا ما واجهناه مع بعض أنواع اللقاحات المضادة لفيروس كوفيد 19، تدنّت فعاليتها بشكل ملحوظ بعد تغيّره.
لقاحات الجيل الثالث تعدّل بسرعة في حال تحوّر الفيروس


وبعد تطور العلوم، ظهر الجيل الثاني من اللقاحات الذي يحتوي على أجزاء من العامل المسبّب للمرض، لا جسمه كاملاً. وبقيت المهمة على حالها تتمثل بالوصول إلى المناعة اللازمة. هذه التقنية الجديدة أتاحت إعطاء اللقاحات للأطفال الذين لا تحتمل أجسامهم الصغيرة ردة فعل مناعية قوية كتلك التي تسبّبها لقاحات الجيل الأول. أشهر هذه اللقاحات تلك التي تعطى للأطفال في الأشهر الأولى بعد ولادتهم وتعرف باللقاح السداسي.
تفشّي فيروس كورونا دفع بالتطور العلمي إلى مدى أبعد، وتمّ إنتاج لقاحات من الجيل الثالث. أما طريقة عملها، فهي تقوم على إيصال جزء من المادة الوراثية الفيروسية إلى داخل خلايا جسمنا. فتدفعها بالتالي لتصنيع أجزاء من جسم الفيروس، ما يؤدي إلى حصول ردة فعل مناعية أساسية في تحصين الشخص. هذه اللقاحات على عكس الجيلين الأول والثاني، لا يحتاج إنتاجها إلى الكثير من الوقت، ويمكن العمل على تعديلها بسرعة في حال تحوّر الفيروس، كما يجري اليوم مع اللقاحات الخاصة بفيروس كورونا التي تنتمي إلى الجيل الثالث.