من يحاسب على الجرائم البيئية؟ هذا العنوان القديم الذي طالما طُرح بعد حصول الكثير من الجرائم الكبرى، ولا سيّما عندما تمّ إدخال النفايات السامة والخطرة إلى لبنان زمن الحرب الأهلية، لا يزال مطروحاً ولم يمرّ عليه الزمن. ولعلّ أهم مميّزات أو تعريفات الجرائم البيئية، أنّها في معظمها، جرائم مستمرة ولا يمرّ عليها الزمن. في زمن «النفايات السامة»، أخلى مدّعي عام التمييز آنذاك، القاضي عدنان عضوم سبيل موقوفين بجرم الإدخال، عندما لم يتم إثبات أن هناك جرماً مشهوداً، وأن أحداً استطاع أن يثبت أن هناك أضراراً صحية وقعت على أناس محدّدين. تم الردّ آنذاك على القاضي عضوم بأن الجرم حصل بمجرد إدخال نفايات خطرة أو سامة أو مُعدية، حتى لو لم يتم إثبات الضرر فعلياً. بعد ذلك، ومع التطوّرات في المشكلات والجرائم البيئية التي حصلت في لبنان والعالم وزيادة الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، زاد التلوّث وزادت المواد المصنّفة مسرطنة بالآلاف، وزادت الأمور القانونية تعقيداً وبقي السؤال يتكرّر: من يحاسب؟

قانون «النيابة العامة البيئية»
واكب لبنان التطورات الجرمية البيئية بأن أقرّ قانون النيابة العامة البيئية منذ 8 سنوات. اعتُبر ذلك آنذاك فتحاً مهماً في مسيرة حماية البيئة في لبنان لأنه كان يعني إيجاد إطار قانوني متخصّص وقضاة مدرّبين ومتخصّصين يمكنهم أن يصدروا الأحكام لحماية البيئة على كلّ الأراضي اللبنانية. كما كان يعني حصول تطوّر مهم في ما يسمى «الجرائم البيئية» وتعريفها والعقوبات المحدّدة لمكافحتها.
صدر أكثر من حكم على قاطعي أشجار، تساوى فيها من قطع أشجار سنديان ومن قطع أشجار لزاب


هذا القانون كان يفترض أيضاً تفرّغ القضاة للعمل في الشكاوى البيئية، وتصنيف الخبراء المساعدين الذين يتحققون من الجرائم، ووجود «بوليس أخضر»، أي قوى أمنية تنفيذية متخصّصة أيضاً وتخضع لهذه النيابات العامة البيئية وتكون بإمرة وزير البيئة. ونصّ القانون على استحداث الدوائر الإقليمية البيئية التي تُعدّ الذراع والعين المراقبة لوزارة البيئة في المناطق كافة. وكان يفترض أن يكون في وزارة البيئة سجل خاص تُدوّن فيه الملاحقات والأحكام الجزائية الصادرة بحق الأشخاص في الجرائم البيئية لتوثيقها. كما اعتُبر هذا القانون حامي الحمى بالنسبة إلى التنوّع البيولوجي في البلاد. وقد وقع أكثر من حدث وصدر أكثر من حكم على قاطعي الأشجار، على سبيل المثال، لم تكن عادلة بيئياً، إذ تساوى في الأحكام من قطع أشجار سنديان ومن قطع أشجار لزاب، مع أن أشجار السنديان تعود وتنبت. أما أشجار اللزاب فلا تعود! هذه الأخيرة يصعب إنباتها ونموّها بطيء جداً، مع أنّها تصنّف من أكثر الأنواع مقاومة للتغيّرات المناخية وتنبت في القمم. فعلى أي أساس تصدر الأحكام والعقوبات؟ وأيّ قضاء متخصّص وأيّ خبراء محلّفين يفترض استشارتهم؟

مراجعة القانون
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، نظّمت وزارة البيئة مع مؤسسة «هانز زايدل» الأسبوع الماضي ورشة عمل في الوزارة للإضاءة على أهمية هذا القانون واستطلاع العوائق التي حالت دون تطبيقه، بمشاركة قضاة وخبراء وممثلي وزارات معنية وجمعيات لها تجارب في الادّعاء على جرائم بيئية.
وزير البيئة ناصر ياسين تحدّث عن حجم الهدر والتدهور البيئي في لبنان والذي بات يُقدّر بمليارين و300 مليون دولار أميركي. مؤكداً أن «العدلية في لبنان ليست بخير، وهناك حاجة إلى استنهاض القضاء كصمام أمان لحلّ النزاعات وحماية البيئة». كما تحدّث عن عدد الشكاوى التي رفعتها وزارة البيئة على مستثمرين في القضايا كافة وكيف تم التعامل معها، مقترحاً إطاراً جديداً للتعامل مع المدّعين العامين البيئيين.
من جهته اعتبر القاضي نبيل صاري، أحد المساهمين الرئيسيين في وضع مشروع قانون النيابة العامة البيئية قبل إدخال تعديلات عليه في مجلس النواب، أن هذا الأخير «قزّم المشروع»، مشيراً إلى أن «القانون الذي صدر منذ 8 سنوات وحمل الرقم 253/2014 لم يُطبّق بشكل صحيح وبقيت هناك ثغرات عدة، أهمّها عدم نشر الأحكام والقرارات الصادرة بالقضايا البيئية في جريدتين محليتين وخاصة في حال حفظ الادّعاء، وعدم تعيين قضاة تحقيق بيئيين ونيابات عامة متفرّغة، ووضع معايير اختيار الخبراء البيئيين، وعدم اعتماد السجلّ العدلي البيئي بشكل كامل وخاصة لدى قيام المناقصات العمومية». ودعا وزير البيئة إلى «اقتراح مشروع قانون لإعطاء الجمعيات البيئية الصفة للادّعاء بالقضايا البيئية واعتماد تعبير «المحاسبة» العامة البيئية بدلاً من «النيابة» العامة البيئية».
أما القاضي محمد شرف، الذي سجّل رقماً قياساً في مراجعة الدعاوى البيئية، فقد أشار الى خصوصية الجريمة البيئية محاولاً الإجابة على سؤال: لماذا وُجدت قوانين خاصة بالبيئة؟ معتبراً أن الضرر البيئي هو الذي ينجم عن نشاط اقتصادي، وأن العدل البيئي يتطلب التوفيق بين تأمين النشاط الاقتصادي وحماية البيئة في آن.
وشرح شرف في مداخلته المبادئ القانونية التي أوجدها، وأثر هذه المبادئ على الملاحقة والحكم والتحقيق ووسائل الإثبات، ولا سيما مبدأ الاحتراس ومبدأ الملوّث يدفع، معتبراً أن التعويضات في الأحكام تتغيّر بين محكمة وأخرى حسب تقدير الخبراء وحسب تقدير القاضي واجتهاده. وجواباً على سؤال كيف طبّقت النيابة وقضاء الحكم أحكام هذا القانون؟ أجرى مقارنة مع ما توصّل إليه القانون والاجتهاد في فرنسا، ولا سيما حول كيفية إصلاح الضرر البيئي وكيف على المحاكم أن تحكم بالتعويض عن الضرر البيئي؟ مقترحاً إدخال نصّ حول التعويض عن الضرر البيئي في القانون الوضعي، وإنشاء ضابطة عدلية متخصّصة وتدريب القضاة وإنشاء هيئة الخبراء المختصّين.