منذ 14 حزيران الفائت، يشتعل القمح في مرفأ بيروت. إلا أن الحريق المستمرّ منذ نحو أسبوعين لا يشبه ما سبقه، على الأقلّ لناحية القرارات التي اتُّخذت وكانت نتيجتها امتداد الحريق لا إخماده. آخرها قرار وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي، قبل ثلاثة أيامٍ، تكليف الدفاع المدني وفوج إطفاء بيروت العمل «على تبريد الأهراءات». غير أن ما لم يكن في الحسبان أن يرتكب «أصحاب الخبرة» الخطأ نفسه الذي ارتكبته قيادة الجيش قبلهم بأيام: إطفاء الحريق بالمياه.
تسعير النيران
قد ينجح هذا الأمر في إطفاء حريق مبنى أو معمل أو حتى حرج كثيف من الأشجار، أما في حالة الأهراءات «فهو خطأ كبير»، بحسب رئيس اللجنة العلمية لمعالجة الحبوب في مرفأ بيروت عقب انفجار 4 آب، الدكتور محمد أبيض، مجدّداً التأكيد أنه لا يمكن «إطفاء هذا الحريق بالمياه لأن من شأن ذلك أن يزيد الرطوبة داخل الأهراءات ويحفّز عملية التخمر ومن ثم الاشتعال الذاتي للحبوب». ما بات ثابتاً اليوم أن الحريق المندلع في صوامع القمح «لا يشبه أي حريق آخر»، يحسم أبيض. وهذا يعني عملياً أنه لا يمكن التعامل معه كما يتم التعامل مع غيره، وتحديداً في الشق المتعلّق بالتقنيات والمواد المستخدمة في عمليات الإطفاء. والتجارب التي شهدتها الفترة الأخيرة تكفي لتصديق هذا القول.
وبحسب أبيض، أدّت المحاولة الأخيرة لفوج الإطفاء والدفاع المدني إلى «تسعير النيران، بسبب إشباع القمح بالمياه». المخيف في تلك المحاولات هو وصول البلل إلى أماكن جديدة بسبب «الرشّ العشوائي للمياه، فقد وصلت كمية من المياه إلى القمح داخل إحدى الصوامع المفتوحة، فاشتعلت من الداخل بعض الشيء، بعدما كان الحريق خارجاً». والمشكلة الأسوأ أنه كلما هبّ هواء، سيزيد الاشتعال. يشبه ذلك تماماً «ما قد نفعله عندما نشعل مدفأة».

الانزياح يتمدّد
السؤال هنا: لِم الإصرار على إطفاء ما لا يمكن إطفاؤه؟
سؤال يهجس به أبيض وخبراء آخرون في اللجنة العلمية، خصوصاً أن ما يحدث «يؤثر على بنية الأهراءات المتصدّعة في الأصل»، بحسب أبيض. الخوف يكبر اليوم من انهيار الصوامع بفعل الانزياح الذي يتمدّد يوماً بعد يوم، ووصل إلى حدود «2,5 ملليمتر يومياً وفق ما تظهره بيانات القياس»، بحسب الباحث المتخصص في الهندسة الجرثومية، وعضو اللجنة أيضاً، الدكتور أندريه خوري.
في التأثيرات المباشرة، يسهم الحريق في زيادة التفكك في بنية الأهراءات وبالتالي تسريع الانهيار، يقول أبيض. وإذا كان من الصعب احتساب موعد السقوط، إلا أن ما يتوقّعه خوري «انهيار أجزاء من الصوامع قريباً». انهيار لن يكون عابراً بلا صوت، بل هناك احتمال حدوث ما يشبه «فقعة صغيرة، وهذا أمر طبيعي، نتيجة ما تعرّضت له حبوب القمح والذرة من عوامل داخل الصوامع طيلة السنتين الماضيتين». يذكر منها خوري «مياه الأمطار التي تسلّلت عبر التصدّعات، والرطوبة القوية والتي ضاعفها القرب من البحر، إضافة إلى حرارة الصيف».
أدّت المحاولة الأخيرة إلى تسعير النيران بسبب إشباع القمح بالمياه

عوامل تسبّبت «بنشوء ما يسمى بالفطريات الخيطية أو العفن الذي تغذّى من السكريات والنشويات الموجودة في الحبوب، ما أدّى إلى ظهور طبقة عازلة على الحبوب، وبالتالي نشوء جيوب غازية ناتجة عن عملية تخمّر الحبوب والتي تساعد على تحفيز عملية الاحتراق». هذه العملية لن تنتج انفجاراً كما حدث سابقاً، نظراً إلى أن الانفجار السابق ينتج عن مواد شديدة الانفجار (نيترات الأمونيوم)، إلا أن ما جرى في الصوامع خلال الفترة السابقة يثير خوف الخبراء، خصوصاً مع «تطاير الغبار مع ما يحمله من تلك الفطريات». ويحذّر الخوري من تأثيرات هذه الفطريات على الصحة، ولا سيما تسبّبها بأمراض رئوية، كحساسية الربو والأمراض الرئوية الفطرية وأسوؤها «aspergillose pulmonaire» (داء الرشاشيات القصبي الرئوي التحسّسي). والخوف هنا من الهواء الذي يمكن أن يحمل تلك الفطريات مسافة بعيدة، يقدّرها خوري بـ«5 إلى 10 كلم». في المقابل، نفت مصادر طبية احتمال تطاير الفطريات، بل وقوعها في أرضها، وبالتالي عدم تسبّبها بأي أذى إلا لمن يقترب من المبنى ويكون على تماس مباشر معها.