تعتبر قضية تغيّر المناخ العالمية الضحية الأكبر للحرب الأخيرة (الروسية والأوكرانية) ومن خلفها، بالرغم من كونها، لناحية نتائجها أكثر تدميراً من أيّ حرب تقليدية! هذا الكلام لن يجد صداه على ما يبدو عند الدول الكبرى المعنية بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه الحرب. لأن الدوافع التي كانت وراء هذه الحرب، أي السباق إلى الاستحواذ على الموارد، هي نفسها التي كانت سبباً في تخريب الموارد والمناخ العالمي.من نتائج هذه الحرب، أن دول الاتحاد الأوروبي التي كانت تعتبر الرافعة التاريخية لقضية تغيّر المناخ، خصوصاً أثناء تراجع الولايات المتحدة وانسحابها من الاتفاقيات ذات الصلة، تذهب الآن باتجاه زيادة الصرف على التسلّح، بدل الاهتمام بتمويل قضايا المناخ. كان مطلوباً مئة مليار دولار سنوياً لصندوق المناخ بعد عام 2020، حسب اتفاقية باريس المناخية التي أُبرمت عام 2015 وحسب مقرّرات قمة كوبنهاجن عام 2009… والآن يتطلّع بنك الاستثمار الأوروبي لجمع المبلغ نفسه (مئة مليار دولار) لإعادة إعمار أوكرانيا!
كما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أخيراً، أنّ التكتل يعتزم زيادة إنفاقه العسكري بـ200 مليار دولار في السنوات القادمة، على خلفية تطوّرات الوضع في أوكرانيا!
وبعدما كانت عناوين مرحلة ما قبل الحرب الأخيرة، كيفية الوصول إلى الغاز وتأمين خطوط إمداده، أصبحت العناوين بكيفية الخروج من الغاز (الروسي)، ما انعكس سلباً على سياسات وخيارات الطاقة الدولية عامة. هذه الحرب أعادت الاعتبار إلى الفحم الحجري أيضاً، بعدما كانت قمة غلاسكو للمناخ العام الماضي قد سمّته بالاسم لأول مرة بأنه الوقود غير المرغوب فيه عالمياً، وقد وضعت مهلاً زمنية محددة ومتفاوتة للتخلص منه. بالإضافة إلى إعادة بعض الدول النظر بسياستها الطاقوية للعودة إلى الطاقة النووية بعدما كانت قد وضعت برامج للتراجع عنها، ولا سيما بعد حادثة فوكوشيما عام 2011.
هذه التغيّرات الدراماتيكية على المستوى العالمي، كيف ستنعكس على البلدان النامية التي تعاني من أزمات لا تقل فداحة؟ أو على الأصحّ كيف ستتعامل تلك الدول مع هذه الصراعات والانقسامات العالمية الخطيرة؟ كيف ستتعامل دول المنطقة العربية تحديداً مع هذه القضايا، وهي التي ستستضيف قمم المناخ (هذا العام في شرم الشيخ والعام القادم في الإمارات)؟ ماذا تتوقع وما الذي تقترحه للمساهمة في التخفيف من هذه الصراعات الدولية المدمرة لكل شيء؟
كانت المملكة العربية السعودية قد أطلقت مبادرة خضراء لخفض الكربون قبيل انعقاد قبيل انعقاد قمة غلاسكو (الكوب 26) العام الماضي، وها هي مطالبة اليوم قبيل قمة شرم الشيخ (الكوب 27) أن ترفع إنتاجها من الوقود الأحفوري للمساهمة في وقف ارتفاع أسعار الوقود على المستوى العالمي والتسبّب بأزمات كبيرة عند الكثير من الدول وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية. في وقت ربحت أخيراً 18 ولاية دعاوى أمام المحكمة الأميركية العليا لعدم خفض انبعاثات معامل الفحم فيها التي كانت ستؤدي إلى إقفالها والتسبب بأزمات اقتصادية أكبر… ولم يعد معلوماً كيف سيوفق الرئيس الأميركي جو بايدن بين تعهداته المناخية وزيارته المرتقبة لدول المنطقة العربية، لا سيما العربية السعودية، للمطالبة بزيادة إنتاج الوقود الأحفوري!
من ناحية أخرى، لم ولن تقصّر بقية الدول الكبرى في المعسكرات الأخرى، في زيادة انبعاثاتها بحجج المنافسة في الأسواق وفي كلّ شيء تقريباً.
ليس في العالم انقسام معسكراتي على أسس وخيارات اقتصادية متناقضة وقيم ونماذج حضارية مختلفة بين رأسمالية واشتراكية وشيوعية… أو بين شرق وغرب، أو بين أقوام وإتنيات وأديان وثقافات، إلخ. العالم واحد، والكلّ شريك بشكل أو بآخر في اقتصاد السوق المسيطر عالمياً، والكلّ يتنافس في هذا السوق المفتوح، ضمن قواعده. ليس هناك قواعد أخلاقية لهذا السوق، إلا تلك التي تتطلبها طبيعة المنافسة والتي في جوهرها من دون قواعد أو حدود. هو صراع وتنافس حتى الموت، حتى استنزاف الموارد أو تدميرها، وحتى تغيير المناخ العالمي والتلاعب بالجينات وتهديد التنوّع البيولوجي وانقراض الأنواع وتهديد النوع الإنساني نفسه.
وليس أدلّ على عدم وجود حدود لهذا الصراع، وهذا التنافس للوصول إلى الموارد، أكثر من مراهنة البعض على الاستفادة من التغيّرات المناخية وذوبان الجليد من الأماكن المتجمدة، لتسهيل عملية التنقيب عن النفط والغاز وغيرها من المعادن الثمينة أكثر وأكثر، حتى لو أدّى استمرار ذوبان الجليد وارتفاع منسوب مياه المحيطات والبحار سنتيمتراً كلّ سنة، إلى اختفاء جزر مأهولة وتدمير شواطئ مدن عريقة، وتهجير وتشريد أناس بأعداد ضخمة، ستزيد عن تلك الهجرات التي تسبّبت بها الحروب العالمية السابقة!
ليس هذا وحسب، فإن تطوّر استخدام التكنولوجيا الخضراء على نطاق واسع، وضمن قواعد السوق التنافسية نفسها، فتح باباً جديداً للتنافس والصراع للوصول إلى الأتربة النادرة التي تصنع منها هذه التكنولوجيا (المستخدمة في صناعة الألواح الشمسية ومراوح الهواء والبطاريات…) ما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل جنوني وتعرّضها للاستنزاف بشكل غير معقول.
بالإضافة إلى إعادة إحياء الظروف التنافسية للطاقة النووية التي استبعدت من الاهتمام العالمي بعد كارثة فوكوشيما عام 2011، مع الاعتراف العلمي والعالمي بما لهذا الخيار من مخاطر وأكلاف كبيرة جداً على كلّ المستويات.
إلى أين يذهب العالم إذاً، وما الذي يمكن أن تقترحه أو تفعله الدول الصغرى أمام هذا الصراع المجنون بين الكبار؟
لن تستطيع شبه الدول، أو تلك التي لا تزال مستعمرة أو شبه مستعمرة، أن تقترح شيئاً وهي التي سهّلت تحويل أرضها إلى مستعمرات وشعبها إلى مجرد مستهلكين. الرهان على مفكرين من هذه المنطقة لاقتراح فلسفات وأفكار جديدة منقذة، تنطلق من هذه الإشكاليات والتحديات الوجودية، ليبنى عليها اتجاهات فكرية وقيمية وسياسة وأحزاب جديدة. أفكار لا تتصف بالحيادية في ظلّ هذا الصراع العالمي المدمر، بل تلك التي تفتح آفاقاً جديدة للتفكير، وطريقاً جديداً ثالثاً يتصّف بالتواضع في التفكير والحلم والعمل والاستثمار والاستهلاك، إلخ. وتعيد الاعتبار لقيم قديمة مثل الكفاية، مع إعادة الاعتبار لقوانين الطبيعة وعدم السماح لقوانين اقتصاد السوق والاستثمار غير المحدود بتجاوزها بأي شكل من الأشكال. هذه القيم التي تدمج أو تزاوج بين حماية الطبيعة والموارد وبين حفظ حقوق الإنسان والأجيال القادمة أيضاً.