سبعة عشر يوماً مضت على التوقّف القسري لمختلف الأعمال الأكاديميّة في الجامعة اللبنانيّة. القرار، الذي أعلنته «رابطة الأساتذة المتفرّغين» في الجامعة وزكّاه ممثلو الأساتذة في مجلس الجامعة اعتقد أهل الجامعة أنّه سيجعل السلطة تقف على «إجر ونصّ»! كيف لا، وقرارٌ من هذا النوع، لجامعةٍ من هذا الوزن، يُسقِط «حكوماتٍ» في الدول التي تحترم العلم وتحترم الفكر وتحترم نفسها، باختصار. أيّام طويلة، بصباحاتها ومساءاتها وما بينهما، وأهلُ الجامعة يقرعون الأبواب «لاستجداء» حقوقهم. بالإضراب والاعتصام والجمعيّات العموميّة. رفعوا على كلّ المنابر صرخات الاستغاثة: «يا عالم... يا هو... جامعتنا تحتضر فهل من مسعفٍ لها؟ وهل من سريرٍ يلمّ جراحها في غرفة العناية الفائقة؟». لا شيء رجْع الصدى.لا يهمّ مَن سيسعفها! ركنٌ من أركان الحُكم! سمسارٌ من سماسرة الدولة! عصابةٌ من عصابات البلد! هي تحتاج لضخّ قليلٍ من الأوكسجين في رئتيْها كي لا تختنق. كي لا يتوقّف قلبها عن الخفقان. عبثاً نحاول! يبدو أنّ قرار الإجهاز على الجامعة الوطنيّة قد اتُخِذ في الغرف السوداء! في قصور حُكّامنا. بينما جامعتنا الوطنيّة تحتضر. هم يعرفون بحالها جيّداً. وبالتفاصيل المملّة. لكنّهم، كما تأكّد بالدلائل الحسّيّة، يريدونها أن تحتضر. هم لا يريدون عدم إنقاذ الجامعة، فحسب. بل إنّهم، كلّهم، يتخلّون عنها. ويستهدفونها مباشرةً. في مفارقةٍ عجيبة لا تحدث في أيّ دولةٍ في المعمورة. مع أنّ الدولة اللبنانيّة، لمَن لا يعرف، هي المسؤولة عن هذه الجامعة. وهي التي تقرّر بشأنها (عبر مجلس الوزراء). أي في يدها، ببساطة، الترياق الذي يُبطِل مفعول السموم التي دُسَّت في عروقها. وينهض بها من كبوتها للاضطلاع بدورها الأكاديمي والاجتماعي.
فإذا كانت السلطة السياسيّة ترى في الجامعة اللبنانيّة عبئاً عليها، ولا تريد تحمّل المسؤوليّة في قضاياها المزمنة وملفّاتها المُلِحّة، العالق منها والطارئ، فلْتَمنحْها استقلاليّتها. ولْتُعِدْ إليها صلاحيّاتها ولْتُقدِّمْ مشاريع قوانين تمكِّن الجامعة من تسيير شؤونها بنفسها ومن خلال رئيسها ومجالسها، وفي مقدّمها مجلس الجامعة! لكنّ القصّة الحقيقيّة هي أنّ الدولة تريد الجامعة. فالقصّة في الحصّة، يا أصدقاء. إذْ إنّ الحكومة ومَن بيدهم السلطة والقرار وأصحاب الفيتوات والنفوذ السياسي والطائفي، اتّفقوا في ما بينهم على كلمة السرّ: الإعلان أنّ هناك شروطاً وشروطاً مضادّة (على خطّ بعبدا- السراي الكبير- عين التينة)، تمنع الحلحلة والحلّ.
أمّا في الكواليس، فاللعب بالطابة «شغّال». كيف؟ يطلب الأوّل طلباً، فيقبل به الثالث ويرفضه الثاني. ويطلب الثاني مطلباً، يقبله الثالث ويرفضه الأوّل. ويطلب الثالث مطلباً، يرفضه الأوّل ويقبله الثاني. وهكذا دواليك. ويحلو اللعب أكثر، عندما يطلب اثنان من الثلاثة الشيء ذاته. «مرتاحين عَ وضعهن الشباب»، مثلما نقول بالعاميّة. إذاً، المطلوب هو الاستعصاء. أمّا واقع ووظيفة ومستقبل هذه الجامعة، التي خرّجت غالبيّة مَن هم على مقاعد الحكومة والبرلمان اليوم، فإلى الجحيم. وبالحديث عن البرلمان، الذي يضمّ عدداً غير قليل من أساتذة الجامعة اللبنانيّة، أَوَليس هناك نائبٌ واحد «شبعان من حليب إمّو» ليبادر ويوجّه السؤال للحكومة عن حقيقة دورها في سياسة التدمير الممنهج لهذه الجامعة؟!
ونعود إلى رقص مسؤولينا على حبال المحاصصة. لماذا لم تُدرَج الجامعة اللبنانيّة على جلسة الحكومة اليوم؟
في آخر المعلومات، أنّ عمليّات الشدّ والرخي يقوم بها، بالدرجة الأولى، الرئيس عون (التيّار الوطني الحرّ ضمناً)؛ وبالدرجة الثانية، الرئيس ميقاتي (الواقع تحت صدمة عدم تمرير اللجان النيابيّة لمسوّدته المعدَّلة لاقتراح قانون «الكابيتال كونترول»)؛ وبالدرجة الثالثة، الرئيس برّي. وطبعاً، كلّ مسؤولٍ من الثلاثة لا يجاهر بالصراخ، أين حصّتي؟! بل يصرخ، أين حقوق طائفتي؟! والجميل، أنّ حقوق المسيحيّين تصبح، حصراً هنا، حقوق العونيّين. وحقوق السُنّة (التي يفاوض عليها وكيل وفي للسيّدة النائبة بهيّة الحريري) تُتنازَع بين الحريريّين والميقاتيّين. أمّا حقوق الشيعة، ففي الحفظ والصون. ويضبط إيقاعها، مع حزب الله، الرئيس نبيه برّي. غير أنّ ما ينكّد صفو خاطره، هو «تَنْحَرة» العونيّين على انتزاع عمادة كليّة الطبّ منه. وهو حين وافق على هذا المطلب، سال ريق العونيّين على عماداتٍ أخرى (ليست لهم «عرفيّاً»). بينما تشبّث السُنّة بعميدٍ خامس يكون، إلى حدٍّ ما، مقابل رئاسة الجامعة للشيعة (هم نسوا أنّ هذه الرئاسة «داكشها» الرئيس رفيق الحريري في الـ1997 مع انتقال صلاحيّات مجلس الجامعة إلى مجلس الوزراء). اسمعوا وحلّلوا واستنتجوا.
- يربط العونيّون الملفّات ببعضها. لكنّهم يستقتلون على تمرير ملفّ العمداء. وافقوا على تمرير ملفّيْ المدرّبين والملاك. لماذا؟ لأنّ ملفّ المدرّبين لا يعنيهم مَن فيه. أمّا ملفّ الملاك، فمعظم الأساتذة المسيحيّين المرشّحين فيه، هم من دفعة الذين تفرّغوا في الـ 2014؛ وغالبيّتهم من العونيّين الذين كان وزير التربية (آنذاك) الياس بو صعب يُدرِجهم على اللائحة باتّصالٍ هاتفي بسيط بسكرتيرته.
- يرفض العونيّون إقرار ملفّ التفرّغ، بصيغته الحاليّة. لماذا، ورئيس الجامعة ووزير التربية زاناه بميزان الذهب ليأتي «عادلاً» بين الطوائف؟ لأنّهم يريدون إحالته إلى مجلس الجامعة الذي سيتشكّل من العمداء (المسيحيّين) الجدد، لينظر فيه. فهؤلاء العمداء العشرة سيكونون كلّهم، وبحسب مطلب رئيس الجمهوريّة، من العونيّين. وهذه العمادات هي: الطبّ وطبّ الأسنان والصحّة والهندسة والزراعة والآداب وإدارة الأعمال والتربية والسياحة والمعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسيّة والإداريّة والاقتصاديّة. هم، للإشارة، لا يريدون عمادة الحقوق والعلوم السياسيّة. لكون المرشح لها قوّاتيّ الهوى (دكتور فادي نمّور).
الرؤساء الثلاثة متورّطون في عملية الشدّ والرخي كلّ لأهدافه


- المطلب- الشرط العونيّ الثالث، هو أن تكون دكتورة غادة شريم، حصراً، عميدة كليّة الآداب. وأن تكون رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء دكتورة ندى عويجان (ما غيرها)، حصراً كذلك، أحد مفوَّضيْ الحكومة في مجلس الجامعة. وتنازلوا عن المفوَّض الثاني (وهو مسيحي عادةً) «لإخوانهم» السُنّة.
- و»إخوانهم» السُنّة لا يصبون إلى هذه «المكرمة» العونيّة. بل هم تشبّثوا بحقّهم (؟؟) بعميدٍ خامس هو أصلاً من حصّة الدروز. بحيث تتوزّع حصّة المسلمين: أربعة عمداء للشيعة وأربعة للسُنّة وواحد للدروز. ويطالب السُنّة بعمادات: الآداب والتربية والصحّة (التي يطالب بها العونيّون) والتكنولوجيا والمعهد العالي للدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا.
- يرفض السُنّة (ميقاتي وبهيّة الحريري) إقرار ملفّ المدرّبين. لماذا؟ لأنّ غالبيّة عناصره من الشيعة!
- لا يضع الشيعة (برّي) مطالب. بل يبتغون الإبقاء على ما لديهم من عمادات. ولا سيّما، عمادتا الطبّ والعلوم.
- وأخيراً يطالب الدروز بعمادة كليّة الفنون.
هذه هي حكايتنا مع السلطة السياسيّة، الماضية قُدُماً في تسريع انهيار الجامعة اللبنانيّة. ولم تنتهِ الحكاية هنا. لقد أمّنت السلطة التغطية السياسيّة للمديريّة العامّة للطيران المدني في مطار بيروت، لكي تكسر قراراً قضائيّاً. وتتمنّع، بالتالي، عن دفع 50 مليون دولار هي حقّ الجامعة اللبنانيّة من عائدات فحوص الـ PCR التي نفّذها مختبر الجامعة وكادراته من الأساتذة والطلاب والموظّفين. هي أحدث فصول مسرحيّة «كلّهم عالجامعة اللبنانيّة... كلّهم عالوطن». اقتضى التذكير.

* أستاذة في كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانيّة