ماتت رقية منذر وهي تتوسل قاتلها. في الممر الفاصل بين غرفة نوم أطفالها والمطبخ، ركعت ابنة الثانية والعشرين ربيعاً تحت قدمَي زوجها محمد م. ـــ المدعى عليه بجرم القتل ـــ تطلب منه «عدم الاعتداء عليها»، متضرعة بأسماء أطفالها، علّه يرأف بها. لكنها، فعلت ذلك بلا جدوى. لم تنفعها أسماء الملائكة في ثني القاتل عن فعلته. بقي مصوّباً فوهة مسدسه الحربي إلى صدرها وأطلق رصاصته اللئيمة، بدمٍ بارد.
تلك الفوّهة، التي لشدّة قربها من صدرها، «أحرقت لحمها الطري»، يقول مصدر قضائي، استناداً إلى تقرير الطبيب الشرعي الذي كشف على جثة رقية فجر اليوم العشرين من آذار الماضي، وما ورد في القرار الظني، الصادر عن قاضي التحقيق في جبل لبنان القاضي بيتر جرمانوس، والذي استحصلت «الأخبار» على نسخة منه.
رقية فارقت حياتها في طريقها إلى طوارئ مستشفى الرسول الأعظم. هذا ما يذكره رتيب التحقيق. لم يأت الرتيب بما ذكره من العدم، فهناك في الحي الذي كانت تقطنه رقية، روى الفضوليون الكثير من الحكايات عن ذلك الموت، فمنهم من قال إنها انتحرت، وآخرون قالوا إنها قتلت على يد زوجها. واحدة منها كانت أقرب إلى ما كتبه الرتيب في أوراقه، وهي التي تداولها كثر عن «أن الزوج قتل زوجته وانتظر حتى صفّى دمها قبل أن يصرخ على جيرانه ليحملوها إلى المستشفى». لكن سرعان ما اختفت تلك الرواية، لترتفع أسهم فرضية الانتحار. تلك التي استبعدها القرار الظني استناداً إلى «أقوال الشهود والمضبوطات ومضمون تقرير الطبيب الشرعي وتقرير مكتب الحوادث في بعبدا ومجمل التحقيق (...)».


في إحدى المرات،
أقدم على صفع المرحومة أمام شقيقتها لأن الطعام لم يعجبه

فلنبدأ بأقوال الشهود: شاهدة الدقائق الأولى للحادث. كانت سيدة آلمها أنين رقية، فاتصلت عند الواحدة والنصف من فجر ذلك اليوم بالـ«112»، وأبلغت عن «واقعة قيام شخص بقتل زوجته». وأشارت إلى أنه «أثناء وجودها داخل منزلها مع ابنتها (...) سمعت صوت طلق ناري عميق، يرافقه صوت عنّة لشخص ما. وبعد مرور لحظات، سمعت صوت طبشة باب قوية وصوت حديث خفيف لمدة دقيقة. عندما فتحت شباك منزلها (...) سمعت صوت صراخ صادر من داخل منزل المغدورة عبارة عن تجديف بالقوة الإلهية بصوت يقول (قتلت نفسها)».
إفادة كهذه لا تلغي فرضية الانتحار. لكن، ماذا عن تقرير الطبيب الشرعي؟ فعندما نتحدث عن الإركاع، يصبح من الصعب تصديق الموت انتحاراً. عندما نتحدث عن «وضعية مسدّس التصق بجسد الضحية على الجانب الأيمن تحت مستوى الصدر لتخرج الرصاصة من أعلى الظهر للجهة اليمنى»، تستحيل الرواية.
وإذا ما عدنا بالزمن سبع سنواتٍ إلى الوراء، «قد نفهم الموت قتلاً»، يقول أحدهم. ففي الصفحة الأولى من القرار الظني، يعيد الوالد التذكير بحادثة حصلت قبل سبع سنوات، عندما كانت رقية لا تزال «مخطوبة». يشير التقرير إلى معارضة الوالد لهذا الزواج «كون المدعى عليه كان متسلطاً على المغدورة، حتى إنه قام في إحدى المرات قبل زواجها بضربها داخل منزلها، ما دفع والدها المدعو أسعد محمد منذر إلى تحذيرها من عواقب التأهل من المدعى عليه، قائلاً لها بما حرفيته (إذا كان محمد منذر قبل الزواج يتجرأ على ضربك داخل منزل والدك، فما بالك بعده؟)».
بعده؟ كانت رقية تتلقى الضربة تلو الأخرى أمام أعين الكل. تقول شقيقتها زينة في إفادتها إنها «كانت تشاهد على جسد شقيقتها بعض الكدمات والدماء، وكانت المرحومة تخبرها بأنه كان يقوم بضربها، وأنه في إحدى المرات أقدم على صفع المرحومة أمامها لأن الطعام لم يعجبه».
أما هو، فقد اختلف التحقيق الاستنطاقي معه، عما كان قد أفاد به سابقاً. ففي المرة الأولى، روى الحادثة كما افترضها هو. وبحسب ما ورد في المحضر، يشير إلى أنه عندما عاد مساء «وبدخوله إلى المنزل شاهد زوجته داخل غرفة النوم تقوم بنزع الشعر عن قدميها، فتركها وشأنها وقام بإطعام الأولاد (...) وبعد وقت، قام بنزع مسدسه من وسطه ووضعه في الصالون وجلس على الكنبة لأخذ قسط من الراحة. وبعد نحو عشر دقائق، دخلت زوجته إلى الصالون وأخذت مسدسه. وبعد قليل، سمع صوت طلق ناري، فأسرع باتجاه الممر، فشاهد زوجته رقية ممددة على الأرض والدماء تسيل على صدرها، والمسدس مرمياً على مسافة نحو متر عنها، فأقدم على الصراخ لفقدانه أعصابه».
قال روايته ببرودة أعصاب، كما فعل بروح رقية. وعندما ووجه بالأدلة أنكر، ولا سيما إركاع زوجته قبل إطلاق النار، أجاب بأنه كان نائماً لدى سماعه دويّ إطلاق النار... وهذا ما يناقض ما قاله في المرة الأولى. وعندما سئل عن سبب قيامه بإقفال باب المنزل لدى مغادرته له، أجاب بأنه كان يقفل باب المنزل «تفادياً لخلعه وأن زوجته كان معها مفتاح خاص بها، وأنها كانت ترفض زيارة أهلها، وهي منذ حوالى السنة توقفت كلياً عن الخروج من المنزل». وعندما سئل عن ضربه لزوجته، قال إنه «في إحدى المرات لكشها».
قال كل ذلك بهدوء. لم يسأل في ما قاله كل هؤلاء. مسح جريمته من ذاكرته وكاد يكمل حياته. مسح من ذاكرته أيضاً أن ملائكته باتوا بلا أم، وكاد يكمل. لم يأبه لكل هؤلاء، فهو بنهاية المطاف «رجل ومحميّ من عائلته»، هذا ما يتداوله أحد المقربين، متحدثاً عن ضغط تعرضت له عائلة المغدورة من «العائلة الكبيرة» لطّي الملف. قد يصلح ذلك بين العائلات، أما في القضاء، فهو مدعى عليه ومذنب في جريمة عنف أسري... ومتهم أيضاً «بالعنف الكلامي والجسدي واحتجاز الحرية وبتحويل سيناريو القتل إلى انتحار وبشهر مسدسه الحربي بوجه زوجته وتلقيمه تهديداً». لكل ذلك، هو جانٍ، ويعاقب «بمقتضى البند الرابع من المادة 549 عقوبات، وهي التي تقضي بإنزال عقوبة الإعدام على القتل قصداً، إذا ارتكب من أعمال التعذيب والشراسة نحو الأشخاص».