مع إعلان وزير التربية والتعليم العالي، الياس بو صعب، قراره بالتوجه لإجراء الامتحانات الرسمية في موعدها المقرر في 12 حزيران عبر استخدام الأساتذة المتعاقدين، تفقد هيئة التنسيق النقابية سلاحها الأمضى، الذي دأبت على التهديد به منذ بدء تحركاتها من أجل تحقيق مطلبها المحقّ بتصحيح الأجور لموظفي ومعلمي القطاع العام والمعلمين في القطاع الخاص.
كما أنه ينقل نزاع المصالح إلى داخل الجسم الأكثر صلابة فيها «الأساتذة الثانويين». فالمعلمون الذين سيسيّرون الامتحانات الرسمية هم، بشهادة الوزير نفسه، «جزء لا يتجزأ من العائلة التربوية، فالفرق بينهم وبين غيرهم أنهم لم ينالوا حقوقهم». وقد سبق هذا التطور ظهور التناقض بين مكونات الهيئة، في ظل إصرار كل فئة منها على مطالبها الخاصة، والتي برزت بصورة جليّة أخيراً مع موظفي الإدارة.
ليس الوقت الآن للبحث في أسباب ودوافع المتعاقدين _ وهم من هم _ لاتخاذهم مثل هذا القرار، في وجه زملاء لهم يطالبون بالانضمام إلى صفوفهم كموظفين دائمين تعنيهم السلسلة. ولا في نوعية الصفقة التي تم الاتفاق عليها مع الوزير. المهم الآن هو مناقشة الأسباب التي أدت بالهيئة إلى هذه النتائج، وكيف قرأت الهيئة التوازن السياسي والاجتماعي في لبنان؟ وبالتي كيف أدارت معركتها لتحقيق المطالب؟ وما هي الخطوات العملية التي اتخذتها من أجل تحقيق الشعارات التي رفعتها؟ والسؤال الأبرز هو: هل هناك من سبل للخروج من المأزق الحالي؟
إن المراقب المتابع لتحرك هيئة التنسيق النقابية يلاحظ بوضوح تراجع _ إن لم نقل فقدان _ قدرتها على المبادرة، وخاصة بعد الجلسة النيابية الأولى لنقاش السلسلة وتصويت معظم الكتل النيابية ضد إقرارها بحسب ملاحظات الهيئة، التي حاولت الضغط من أجل الإسراع في بت المطلب قبل موعد الاستحقاق الرئاسي. لكنها _ بوعي أو بدونه أو ربما بسذاجة _ سلّمت أوراقها وفوضت لفريق سياسي دون غيره، التفاوض مع الكتل النيابية والحكومة نيابة عنها، متناسية دروس تجربتها الأخيرة على الأقل، حين فرض الفريق السياسي عينه _ «تسوية إذعان» على قيادة الاتحاد العمالي العام للتوقيع عليها _ تصحيحاً للأجور في القطاع الخاص، متجاوزاً وزير العمل في حينها، شربل نحاس، ومتجاهلاً مصالح فئات اجتماعية كبيرة كانت ولا تزال تئنّ من ضغط الأزمة الاقتصادية _ الاجتماعية.

تحويل الروابط
إلى نقابات دون قلق من الفرز في صفوف الأساتذة والموظفين
يكفي لملاحظة فقدان المبادرة أن التحالف الطبقي _ الطائفي الحاكم هو من طرح تسوية إقرار السلسلة عبر ربطها بمشروعه القديم _ الجديد للإصلاح الإداري والخصخصة. المؤسف هنا أن الهيئة اكتفت بالتأكيد على مطلب تصحيح الأجر بالنسبة التي تطالب بها والحفاظ على المكتسبات لمكوناتها ورفض الإصلاحات المقترحة... عوضاً عن المبادرة إلى تقديم تصور شامل يشرح للمواطنين رؤيتها للإصلاح الإداري والضريبي وعبر تقديم مبادرة تستطيع من خلالها استقطاب فئات واسعة من المواطنين إلى معركتها. لقد اختارت الهيئة أيسر السبل وهو التخلي عن القيام بدورها الوطني لصالح مطالبها النقابية الفئوية والتي كان من الممكن ربما تحقيقها بشكل أسرع وأيسر لو لجأت كل فئة (معلمون، إداريون... الخ) كل على حدة وبشكل منفرد إلى المطالبة بها، وهو ما حصل في حالة القضاة والأساتذة الجامعيين. والأرجح أن هناك فئات عديدة تضغط من أجل خيار كهذا، وهو المفضل لدى تحالف السلطة؟! إن التفويض الضمني لرئيس المجلس النيابي بإيجاد مخرج للأزمة هو إشارة واضحة الى أن الهيئة عادت إلى الانتظام الاجتماعي اللبناني القائم ولم تعد قادرة على بناء قوة اجتماعية خارج السيطرة الطائفية. والأهم من كل ذلك أنها باتت في يد مجربة دأبت عبر استخدامها كل الوسائل للإمساك بالاحتجاجات العمالية والشعبية وتوظيفها للمضاربة السياسية والطائفية الداخلية، أي رئيس المجلس النيابي وفريقه السياسي.
إن تخبط قيادة الهيئة في تحديد طبيعة الصراع الاجتماعي وميزان القوى القائم وغياب استراتيجية واضحة تحدد الأولويات وما يجب تحقيقه الآن من أجل البناء عليه في المستقبل أدى إلى تراجع قدرتها على تعبئة قوى اجتماعية جديدة وإلى انفكاك كثيرين من حولها، في ظل حملة إعلامية وأكاديمية عدائية تخوضها قوى تحالف السلطة ضدها. فعوضاً عن العمل على تطوير بنيتها التنظيمية، قامت استراتيجيتها على الحفاظ على تحالف الضرورة القائم بين مكوناتها، وتجلى ذلك بإصرار الهيئة على مطلبها الضيق والمباشر، بالرغم من التباين في بعض التفاصيل المالية والمكتسبات بينها. ولجأت إلى خطاب شعبوي من أجل تعبئة المجتمع اللبناني تجسد في رفع اللهجة الانتقادية ضد التحالف الطبقي _ الطائفي، وخاصة ما سمي «حيتان المال» وإصلاح النظام الضريبي عبر فرض الضريبة التصاعدية والضرائب على الأرباح والريوع والأملاك البحرية والنهرية أو المطالبة بتحقيق دولة الرعاية الاجتماعية. كما لجأت في المناسبات إلى رفع شعارات استراتيجية بيّنت الوقائع أنها كانت لفظية فقط كتحويل الروابط المهنية إلى نقابات أو ما أعلن عن إنشاء حركة 14 أيار النقابية.
إن استمرار الهيئة في هذا النهج يعني سقوطها كبديل فعلي يعيد أمل الحركة العمالية باستعادة دورها السليب وإنجاز المهمات التاريخية المؤجلة؛ وأهمها تحرير إرادة العمال في لبنان وخاصة موظفي القطاع العام وحقهم بإنشاء نقاباتهم الحرة والديموقراطية، ما يعني تحولها إلى نسخة مكررة عن الاتحاد العمالي العام. إن استحضار التجربة التاريخية للحركة العمالية اللبنانية هنا مفيد للغاية؛ فقد فقدت هذه الحركة وتنظيمها النقابي _ الاتحاد العمالي العام _ قدرتها على التأثير أولاً عندما خسرت استقلالية قرارها لصالح قوى السلطة الطائفية، متخلية عن القيام بدورها الوطني كممثل لمصالح وتطلعات كتلة اجتماعية كبرى لقاء بعض المكاسب الشخصية التافهة، مع الإصرار في الوقت عينه على الدفاع عن وحدة عمالية شكلية لا معنى ولا دور لها داخل بنية هشة تتألف من نفس التكوين السياسي للتحالف الطبقي _ الطائفي الحاكم، في ظل غياب حق التنظيم عن أوسع الشرائح العمالية. لقد غاب عن قيادة الهيئة أن تعاطف الكثير من اللبنانيين معها كان قائماً على أساس تصديها لمهمة بناء قوة اجتماعية عابرة للطوائف وخارج الانقسام السياسي الحالي من أجل فرض أجندة اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة من أجل بناء دولة العدالة الاجتماعية وبما يعيد للمواطنين دورهم في صنع السياسات العامة والقوانين التي تنظم حياتهم. للأسف، لم تلتقط الهيئة الفرصة المتاحة أمامها ورضخت لضغوط التحالف السلطوي عبر ممثليه داخلها، كما أنها فشلت في بناء برنامج عمل أوسع من مطلبها المباشر يستطيع استقطاب فئات اجتماعية أخرى، ولا سيما تلك التي نزلت الى الشوارع كالمستأجرين القدامى والمياومين وغيرهم من الفئات. ويكفي مشاهدة وزير التربية في موقع الدفاع عن مصالح طلاب الشهادات الرسمية وأوليائهم _ وهم نظرياً من داعمي الهيئة وتحركاتها من أجل إصلاح اقتصادي واجتماعي حقيقي _ للتدليل على غياب قدرة الهيئة على التقاط الفرصة السانحة وكسر الجمود القائم.
خروج هيئة التنسيق النقابية من هذا المأزق الذي وضعت نفسها فيه لا يزال ممكناً إن هي أرادت، لكن هذا يتطلب إقرار جملة من القضايا الأساسية:
1- الاعتراف بأن تغيير شروط المعركة لا يمكن إلا بالعمل الجدي على بناء قوة اجتماعية تمثيلية قادرة على إحداث توازن اجتماعي يحقق ما هو أبعد من المطالب المرفوعة.
2- لا مجال لاستمرار هيئة التنسيق النقابية منفردة بدون التشاور والتشارك الفعلي مع القوى الاجتماعية الأخرى التي تدعوها للمشاركة في معركتها الوطنية. فطبيعة الصراع الاجتماعي القائم وانخراط تكتل أصحاب الأعمال المباشر (أصحاب المصارف، أصحاب المدارس الخاصة، كبار الصناعيين والتجار) فيه أخرجه من كونه نزاع عمل جماعياً بين موظفين حكوميين وإداراتهم.
3- على هيئة التنسيق أن تقرّ بأن تحقيق مطلبها المالي، حتى لو تم بحسب رغبتها، ليس نهاية المطاف، إذ إن استمرار السياسات الاقتصادية والمالية والضرائبية نفسها التي تنتج غلاء الأسعار والاحتكارات ستأكل الأجور ليعود الجميع مطالبين بتصحيح جديد وهكذا، الأمر الذي يتطلب تفكيراً استراتيجياً حول ماذا يجب أن نحقق لكسر هذه الحلقة. (حق تشكيل النقابات بشكل حر للجميع، المشاركة في كل الهيئات الثلاثية التي تمثل العمال والأجراء وكسر تفرد الاتحاد العمالي العام في القيام بهذا الدور).
4- في ظل الوضع السياسي والاقتصادي الحالي، والأهم اختلال ميزان القوى الاجتماعي، على الهيئة التفكير الجدي بالتنازل عن بعض القضايا الخاصة بها لصالح جموع اللبنانيين بما يؤمن أرضية تضامن فعلي معها على أساس مادي ملموس؛ منها المقاربة الممتازة التي جاءت في بيان الاقتصاديين الداعمين للهيئة (أي تخفيض في أرقام السلسلة مشروط ومتزامن مع زيادة العبء الضريبي على رأس المال المالي والعقاري وكبار المودعين بهدف تمويل التغطية الصحية الشاملة لجميع اللبنانيين ودعم عملية إصلاح التعليم الرسمي) (جريدة الأخبار، العدد 2289، الجمعة 9 أيار 2014).
5- تحويل الروابط إلى نقابات مباشرة، فعلاً لا قولاً، على أسس معايير العمل الدولية والدستور اللبناني والتي تقر بحق تشكيل النقابات للجميع، دون قلق من الفرز الذي قد يحصل في صفوف الأساتذة والموظفين، والبدء بالعمل على بناء منظمات نقابية ديموقراطية ومستقلة في كل مواقع العمل ومساعدتها على بناء التضامن الفعلي في ما بينها وتشكيل مركز نقابي ديموقراطي حر يمثل مصالح العمال مباشرة دون أي تفويض لأحد، مهما علت رتبته أو حكمته.
كما أن على الهيئة التفكير الجدي في إطلاق مبادرة تطرح فيها تسوية وطنية تعيد القضية إلى يدها وتخرجها من بازار قوى تحالف السلطة. إن النقاط التي طرحت أعلاه قد تكون مدخلاً إلى المساعدة على استعادة الأمل بقدرة هيئة التنسيق النقابية على بناء حركة نقابية ديموقراطية ومستقلة خارج الاستقطاب الطائفي، هي وحدها القادرة على بناء ميزان قوى اجتماعي جديد يفتح الأفق لبناء دولة العدالة الاجتماعية والمساواة.