توقّف التعليم الحضوري، بسبب جائحة كورونا، 21 شهراً تابع خلالها بعض التلامذة تعليماً عن بعد لم يكتسب خلاله التلامذة المهارات والكفايات المطلوبة، وكان تقييم وزارة التربية له بأنه غير فعّال. إلا أن الوزارة والمركز التربوي للبحوث والإنماء لم يضعا خططاً علاجية للتعليم وإعادة فتح المدارس، وما تتطلبه من إعادة التوازن للخلل العلائقي والمسلكي والعاطفي والنفسي والمعرفي للتلامذة. في الحدّ الأدنى، تسبب الإقفال في فقدان 21 شهراً من الاكتساب، فضلاً عما يحصل من تفاوت في إطلاق العام الدراسي في القطاع الخاص وتعثّره في الرسمي.نتائج توقف التعليم، كلياً أو جزئياً، لنحو 1.6 مليار طفل وشاب في العالم كانت محور تقرير جديد أصدرته منظمتا «يونيسف» و«يونسكو» والبنك الدولي، وبيّن أن أكثر المتضررين كانوا الأطفال الأصغر سنّاً والأكثر تهميشاً وحرماناً. وقد تفاقمت أزمة التعلّم العالمية بأكثر مما كان يُخشى سابقاً. وفي البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، قد تزداد نسبة الأطفال الذين يعانون فقر التعلم من 59% قبل الجائحة إلى ما يلامس 73%.
يوضح الرسم مقدار الفاقد التعليمي لتلامذة القطاعين الرسمي والخاص قبل الجائحة (باللون الرمادي) حسب معيار PISA، والنتائج المتوقّعة بسبب الجائحة وتداعيات الأزمة الاقتصادية لتلامذة بعمر العشر سنوات عند الإغلاق (بالألوان)، كما يظهر فعّالية التعليم المتدنية أصلاً (3 سنوات في الخاص و4 في الرسمي) عن المعدل العام العالمي، وتدنّي فعالية سنوات التعليم بعد الجائحة إلى 5 أو 6 سنوات في التعليم الرسمي. بحيث تُقدّر السنوات الـ 12 التي يقضيها المتعلّم في المدرسة الرسمية بفعالية 4 سنوات تعليم ذي جودة، وهو ما يستوجب تخطيطاً فعلياً لتعويض الفاقد التعليمي يمتد على مدى 3 أو 4 سنوات للحصول على النتائج السابقة. | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

أما في لبنان، فتعود مشكلة التعليم في جزء كبير منها إلى ما قبل الجائحة، ولا سيما لجهة التفاوت الكبير بين التعليم الرسمي والخاص، قبل أن تأتي الجائحة والأزمة الاقتصادية لتوسّعا الهوة وتُضعفا جودة التعليم.
وفقر التعلم، أي عدم تمكّن طفل في العاشرة عمره من قراءة نص وفهمه والتعبير عنه بلغته الأم، ليس مزحة، وهو أحد أسباب التسرّب والتوقف عن التعلم في مرحلة ما بعد التعليم الابتدائي الإلزامي. وتشير إحصاءات المركز التربوي إلى أن ما يقارب نصف التلامذة الملتحقين بالمدارس يتخلّون عن متابعة الدروس بعد المرحلة المتوسطة (يستمر في التعليم الثانوي نحو 48 ألف طالب من أصل 92 ألف ملتحق بالصف الأول الأساسي). وترتفع النسبة إلى أكثر من 70% هذا العام.
لتحديد معايير جودة التعليم، تعتمد التقارير الدولية على سنوات التعليم الفعلية، وتقارنها بفعّالية سنوات التدريس. في لبنان مثلاً، هناك 12 سنة تعليم فعلي من الصفّ الأول الأساسي حتى الثانوية العامة، وإذا أضفنا إليها سنوات التعليم المبكّر، أي مرحلة الروضة والحضانة الأولى والثانية (nursery, KG1, KG2) المتوفرة إجمالاً في التعليم الخاص، يكون مجموع سنوات التعليم 15 سنة. لكن غياب جودة التعليم يقلّص سنوات فعّالية التعليم إلى ما بين سنتين و4 سنوات، أي أن التلميذ اللبناني يتابع 15 سنة من التدريس ويكتسب مستوى تعليمياً لا يتعدى مستوى تلميذ في كوريا أو سنغافورة أمضى 11 أو 12 سنة دراسية فقط، وذلك استناداً إلى نتائج الاختبار العالمي (PISA) لعام 2015. إذ أن أكثر من ثلثي طلاب لبنان لم يقدموا مستوى الكفاءة الأساسية في العلوم والقراءة والرياضيات. ويكون لبنان، بذلك، متخلّفاً عن المعيار العالمي بمقدار 3 سنوات تقريباً. كما أن هناك فوارق بين تلامذة التعليم الخاص والتعليم الرسمي لجهة الالتحاق بمرحلة التعليم المبكر ومستوى التعليم وجودته، ما يشير إلى أن فارق السنوات الفعّالة قد يرتفع إلى خمس سنوات تأخر لدى تلامذة التعليم الرسمي.
يكتسب التلميذ اللبناني بعد 15 سنة من التدريس مستوى تعليمياً أقل من تلميذ في كوريا أمضى 11 سنة دراسية


ليس تفصيلاً أيضاً تأثير الأزمة الاقتصادية والمالية التي جعلت آلاف العائلات تنقل أولادها من التعليم الخاص إلى التعليم الرسمي المتعثّر (73 ألف تلميذ)، ودفعت ما يزيد على 4 آلاف معلم ومعلمة من ذوي الكفاءات والخبرات في الخاص والرسمي إلى مغادرة البلد أو التعليم. وفي كلا الحالين أي النزوح من الخاص إلى الرسمي لأسباب مالية أو هجرة المعلمين، خسر التلميذ كفاءات متمرسة وقادرة على إحداث خروقات واستعادة جزء من الفاقد التعليمي، أي المكتسبات التي لم يحققها خلال التعليم عن بعد، حيث استُبدل المعلمون بآخرين أقل خبرة وبرواتب متدنية.
كما كانت للأزمة تداعيات كبيرة على التعليم الرسمي الذي لم ينطلق بشكل طبيعي حتى اليوم بسبب تأخر وصول المساعدات الاجتماعية إلى الأساتذة، ما جعل العام الدراسي يتأخر ثلاثة أشهر عن العام الدراسي في القطاع الخاص، وهو ما سيفاقم التفاوت بين القطاعين (راجع الرسم المرفق).
في الواقع، نواجه أزمة حقيقية تتجاوز إمكانات الجهاز الإداري والتربوي في مراكز القرار، فيما الكفاءات خارجه معطّلة وممنوعة من المبادرة. أولادنا عالقون في المأزق، وهم ضحاياه. فمتى يفهم المعنيون أن الحلول ليست إدارية ولا مالية، بل قراءة معمّقة لأزمة التعليم والدراسات التقييمية قبل الجائحة وخلالها وبعدها؟
في انتظار استعادة جودة التعليم في لبنان، سنبقى نرزح تحت الأزمة الاقتصادية وتداعيات تدهور التعليم على اقتصادنا، والمداخيل التي تميزت بها عائلاتنا من المهاجرين، والتمايز العلمي والتقني في مختلف الميادين.
* باحث في التربية والفنون