في القرن الثامن عشر، خلال حكم السلطنة العثمانية، ازدهر ميناء بيروت محوّلاً المدينة إلى قبلة للسكن والتجارة. وعقب الحرب العالمية الأولى، شكّل المرفأ الوجهة الأولى للنازحين من الأطراف والباحثين عن تحسين فرص العيش. على نحو تدريجي، نشأت في محيطه أحزمة البؤس والأحياء الشعبية والمتوسطة والراقية على حدّ سواء. أحياء سكنها عمّال وموظفو مرفأ بيروت الذي شكّل لهم وسيلة للتغيير الطبقي والاجتماعي. كثر من قصص النجاح لرجال أعمال وأصحاب مهن بدأت من المرفأ: «عتالون» أو حمّالون ومخلّصون جمركيون وباعة متجوّلون. لكن مصدر الرزق ذاك كان حتى انفجار الرابع من آب 2020. فبعد أن كان مرفأ بيروت مركز عمل لسنوات طويلة، تحوّل منذ عام إلى مصدر خطر وموقع جامد.
جمال مكوك، من سكّان رأس النبعة، يعمل منذ أكثر من 50 عاماً في المرفأ في تخليص البضاعة. منذ انفجار الرابع من آب انقلبت حياته. «نعيش كعمّال هاجساً يومياً من تكرار الانفجار أو أي حادث مماثل. كلّما دخلنا إلى المرفأ صباح كل يوم، نخشى من أن نكون نحن الضحايا هذه المرة». ما عزّز خوف جمال وزملائه الحريق الذي اشتعل في المرفأ بعد أسبوع على الانفجار.

بات الوسواس والخوف يرافقان أهالي عمّال المرفأ أيضاً. «لم نعد نثق بأي شيء في هذا البلد. أقبّل زوجتي وأودّعها صباحاً قبل مغادرة منزلي. يخطر في بالي أنه قد يكون آخر يوم في حياتي. حتى إن زوجتي باتت تتصل بي بين الساعة والأخرى للاطمئنان».

لم يقتصر الانفجار فقط على التأثير في نفسيّة العمّال، بل قضى أيضاً على أجهزة المرفأ ونشاطه. «كنت أتمنى أن أشرب فنجان قهوة من شدّة العمل قبل 4 آب، اليوم صرت أشرب النرجيلة بسبب ندرة العمل». يشير مكوك إلى أن «وضع البلد الاقتصادي المتدهور والانفجار والمصارف التي لم تعد تعطي اعتمادات للتجار، كلّها عوامل أدّت إلى تراجع النشاط».

نشاط المرفأ على تنوّعه تقلّصَ وانعكس بطالة بين العمّال. «كان العمل في المرفأ يعيل عائلة كبيرة بكاملها. بفضله، تمكّنت من تعليم أولادي» يقول مكوك. فقد المرفأ عزّه وصيته أيضاً. مكوك، الذي كان يشجّع أولاده على العمل معه في المرفأ، صار يمنعهم من الاقتراب منه ويشجّعهم على الهجرة.

مصيبة شربل عبريني في انفجار 4 آب كانت مزدوجة. فهو يسكن في الجميزة المجاورة للمرفأ ويعمل لدى إحدى الشركات الناشطة داخله منذ 48 عاماً. ورث مهنة المرفأ من عائلته. «فتحت عيني على الحياة وكانت عائلتي كلّها تعمل في المرفأ. كان بيتي الكبير. لكن منذ الانفجار، أدخل إلى مكان غريب. معالمه تغيّرت كثيراً. جزء تدمّر وجزء تحوّل إلى ركام وأرض محروقة. لا عنابر ولا طرقات ولا كهرباء. والأسوأ من هذا كلّه أنني خسرت عدداً كبيراً من زملائي في العمل الذين يعملون في منطقة الحاويات».

تغيّر الأشخاص والشعور ومعالم الأمكنة، حتى طبيعة العمل تغيّرت أيضاً. يشير عبريني إلى أن زحمة العمل تقلّصت إلى أقل من 50 في المئة. «كنا نعمل بالمناوبة 24 ساعة يومياً. أنا وزملائي تمكنّا من تنشئة عائلاتنا. كلّما نظرت إلى أولادي المهندسين والأطباء، أشعر بفضل تراب المرفأ الذي ساهم معي في نجاحهم. غير أن أولادي يطلبون مني، يومياً منذ الانفجار، ترك عملي». لم يتقبّل عبريني طلب أولاه. «المرفأ بالنسبة إليّ أكثر من مكان عمل. أنا مدين له على كل النجاح الذي حقّقته في حياتي».

إيلي أبو شقرا أيضاً رفض ترك مرفأ بيروت في محنته. ابن الكرنتينا الملاصقة للمرفأ تضرّر على مستويات عدّة مادّياً معنوياً. «أوّل مرّة دخلت إلى المرفأ بعد الانفجار رأيت جنى عمري كلّه مدمّراً وتحت الأنقاض. الانفجار لم يوقفني عن العمل ولكنه أحزنني كثيراً ودفعني إلى التفكير أكثر والتخوّف من الوضع العام. نحن نعلم أنه مثل كل وظيفة أخرى في هذا البلد نحن معرّضون لخطر يهدّد حياتنا يومياً. وما ذنب الأبرياء الذين وقعوا ضحايا الانفجار وهل يكون اليوم دورنا؟». مع ذلك، لا يزال جار المرفأ يتمسّك بعمله هناك حيث بدأ قبل 30 عاماً كمخلّص جمركي. «منذ عقود طويلة، كان المرفأ مركزاً للناس الفقراء بسبب توافر فرص العمل لجميع الفئات».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا