مع اقتراب مناسبة عدوان تموز، كلّ عام، ينشغل البعض بتعداد السنوات التي مرت منذ عام 2006. فيما ينزوي آخرون لاستحضار خسائرهم من أحبّاء وممتلكات. لكنّ الذكرى مهما بعدت، لا يبرد وهجها، ليس بين من مسّه العدوان مباشرة من أهل الجنوب والبقاع والشمال والضاحية وإقليم الخروب... إنما أيضاً بين من عايشوه كمسعفين وإعلاميين.فالأيام الثلاثة والثلاثون كافية بحكاياتها لكي تملأ ثلاثة وثلاثين ألف سنة، استطعنا كمصوّرين بأن نوثق جزءاً يسيراً منها، لكي يعلم العالم عن أي «جار» يفاوضوننا! حتى إن 12 تموز لا يزال يستولد حكايات اكتشفنا من خلالها بأننا لم نفقه كل أسراره برغم مرور أكثر من عقد. في شباط الماضي، أشاح كورونا الغموض عن هوية محمود ملحم ابن ميدون (البقاع الغربي)، أحد معدّي عملية أسر الجنديين الإسرائيليين في خلة وردة في عيتا الشعب التي اتخذتها إسرائيل ذريعة لشنّ عدوانها. غدره الفيروس وسرقه من الشهادة المؤجّلة.


12 تموز قبل 15 عاماً، كان يوم أربعاء. في باحة مؤسسة التضامن الشعبي في صيدا، كانت مجموعة أطفال ضمن المخيم الصيفي، تستعد للانطلاق إلى المسبح. على بعد عشرات الكيلومترات في خلة وردة، كانت هناك مجموعة لا تكبرهم بكثير، سبقتهم وفتحت كوة في السياج. صوت الزميل عباس شقير على أثير إذاعة النور بدّل مسار اليوم الروتيني. خبر عاجل تحت شعار «تنفيذاً للوعد الذي قطعته على نفسها بإطلاق الأسرى والمعتقلين، قامت المقاومة الإسلامية عند التاسعة وخمس دقائق صباحاً بأسر جنديين إسرائيليين ونقلهم إلى مكان آمن».



الحس الوطني قبل الصحافي أمرنا: «إلى الجنوب دُر». في الطريق، كنا أنا وزميلي وثالثنا سمير القنطار، يتراءى لك حراً يخلع قضبان السجن ويطأ بقدميه حدود عيتا الشعب. كان المشوار الأسرع. دخان الحرائق كان يتصاعد من مركبة الجنود الصهاينة التي استحالت حطاماً متفحّماً قبالة خلّة وردة، فيما أصوات القذائف الإسرائيلية تنفجر خلفنا في موقع المقاومة المُخلَى في بلاط ـــ مروحين. اشتد القصف من حولنا. طلبنا الاحتماء في موقع اليونيفيل المجاور. إجابة رفض سريعة من إصبع الجندي في برج المراقبة، كما فعل الموقع نفسه مع أهل مروحين وأمّ التوت بعد أربعة أيام فقط.


كان علينا أن نعود سريعاً إلى صيدا لنرسل صورنا مع السائق خليل إلى مكاتب الوكالات الدولية في بيروت. سلكنا طرقات فرعية من الزلوطية إلى الجبين وشمع ومدينة صور. لكنّ الطائرات المعادية سبقتنا. أغارت على جسر القاسمية وجسور فرعية أخرى. وقفنا على ضفة، فيما وقف خليل قبالتنا على الضفة الأخرى. قذفنا له أفلام صورنا.
بعد القاسمية، قُصف جسر الزهراني. المسامير السود تنغرز في الإسفلت لتنشر لون النار المتّقدة ثم ينتشر دخان أسود ورمادي. يتساقط فوق رؤوسنا تراب وحجارة ساخنة. في اليوم الثاني، طاوله صاروخ جو ــ أرض لم ينفجر. أوقفَنا ضابطان في الجيش وعرضا اصطحابنا بالـ«ويلز» إلى الصاروخ لتصويره. ما إن التقطنا الصور للصاروخ الضخم، حتى دعانا الضابطان للعودة إلى الآلية. الطيران المعادي يحوم ويزعق في الأرجاء. صعدنا لكن الآلية تعطّلت فيما هدير الطائرات يدوّي. «قم يا محمد لندفشه» قلت لزميلي. «أبهذا العتاد يريدون للجيش بأن ينتشر في الجنوب؟» تساءلنا بصمت.


مهمة إيصال الصور ومقاطع الفيديو إلى بيروت باتت أصعب بعد أن قصف العدو الإسرائيلي في ليلة العدوان الأولى، جسر الأولي. سلسلة غارات جوية فصلت الجنوب عن الوطن. تيقّنا بأننا ذاهبون إلى حرب. «نحن جاهزون لها» قالها السيد حسن نصرالله في مؤتمره الصحافي بعد الإعلان عن العملية.

صريفا وقانا وبنت جبيل
بعد تقطيع أوصال الطرق، شرع العدو بتقطيع أوصال الأرواح. مجزرة أولى بحق عائلة عادل عكاش في الدوير. وفي اليوم الخامس، مجزرة متشعّبة في صريفا.


غارة صهيونية على حي موسكو تحيل بيوته ركاماً. الغارة استهدفت تحركات لمقاومين من الحزب الشيوعي وحزب الله وحركة أمل. اختلط الدم كما اختلط الركام كما ارتبكت المشاعر لديّ.


كنت أعلن بأن عباس محمود دكروب وعباس أمين دكروب وفادي علم الدين وآخرين قد استشهدوا. كنت أعاين موقع المجزرة صباحاً وأشارك بتفقد أهلهم النازحين في إحدى مدارس صيدا مساء. كنت أعاين الأمل في عيون أمهاتهم. لم أفصح عن الحقيقة، بل غذّيت أملهم بسلامة أبنائهم. بعد 14 آب، الجرافات والمعاول تنبش الحطام بحثاً عن بقية أحد العباسين. لم يُعثر إلا على بعضه. حار أهله عند تشييعه، ماذا يضيفون فوق التابوت الخفيف الوزن.

في اليوم الـ 19 من العدوان، وافقت إسرائيل على هدنة إنسانية لـ 48 ساعة. الهدنة سمحت لنا بالوصول إلى بنت جبيل المحاصرة.


عند مدخل بلدة بيت ليف، استُحدث جسر لعبور الحفرة في وسط الطريق الناجمة عن صاروخ: هيكل سرير حديدي. في رامية، ما إن سمحت أصوات سيارات الموكب المؤلف من فرق إسعاف وإغاثة وصحافيين، حتى امتلأت الساحة فجأة بالعجائز. ما إن شاهدوا الكاميرات بين أيدينا حتى أحضروا صور نصرالله ورفعوها مع إشارة النصر، مرددين عتابا الصمود ودحر العدو. الدخول إلى عيتا الشعب لم يكن وارداً. إسرائيل تحاصرها وتحاول الانتقام منها. بالقذائف، منعت مرور سيارة محمّلة بربطات الخبز.

في بنت جبيل، كان المشهد المكثف للدمار كما في الضاحية. عاملها الإسرائيليون كما عامل النازيون ستالينغراد. هناك، شاهدنا بأمّ العين كيف تُسوى مدينة بأكملها في الأرض. الأحياء مقفرة سوى من عجائز لجأوا إلى الأقبية والدور الحجرية القديمة.


عجوز مجروحة عند مدخل دكان مدمر، تشققت شفتاها من الجفاف، بقنينة ماء من براد دكان مكسر روينا ظمأها وصرنا نصرخ بصوت موحد: «دفاع مدني». لكي يتتبّع المسعفون الصدى ويأتوا لإنقاذها. فالأنقاض تَحُول دون دخول آلياتهم الى وسط المدينة.

بعد سماع أصواتنا، خرج المختبئون من بين الركام رجالاً ونساء عُجّزاً وأطفالاً فوجئوا بنا. أنهكهم الحصار لـ 18 يوماً في الأقبية وغرف المونة. نقلتهم سيارات الإسعاف نحو أماكن أكثر أمناً. الطفلة زينب فارس ووالدتها قطعتا المسافة من مارون الراس إلى بنت جبيل مشياً على الأقدام، بعد أن علمتا بأمر الموكب الذي حضر لنقل المحاصرين.


تشد عباءة والدتها وتدعوها للإسراع «هلأ بتمشي الأمبيلانسات وبيتركونا هون». كانوا مشاريع شهداء وها هم التقطوا طرف الحياة مجدداً. ماذا علينا كصحافيين بأن نفعل؟ نصوّر أم نساعدهم؟ الغريزة الإنسانية انتصرت. هنا صحافية أجنبية تتناوب مع زميلها على حمل امرأة مسنّة تتمتم شاكرةً «الله يحميك يا أمي». وهناك امرأة اضطرت لتناول قنينتَي ماء من براد دكان محطم وقبل أن تروي عطش ابنتيها قالت لهما: «ذكروني اتسامح من أبو حسين بحق المي».



لم تدم كذبة هدنة العدو. ارتكب مجزرة قانا الثانية. في الطريق من صور إلى قانا، قافلة الإعلام الأجنبي شهدت على همجية العدوان. جثة متحلّلة أمام دراجة نارية على منعطف وسيارة إسعاف قُصفت بصاروخ.


عند انتشال جثث الشهداء الثلاثين أمام عدسات الكاميرات، شاهدنا أحد أبشع صنوف الغدر. استشهدوا بـ«المقلوب». كانت أرجلهم الى الأعلى ورؤوسهم إلى الأسفل مطمورة بالتراب.

احذروا الراية البيضاء
كانت وكالات الأنباء العالمية توصي مصوّريها بإرسال صور المهجّرين من منازلهم، يرفعون الأعلام البيضاء طلباً للأمان. بعضنا وانطلاقاً من عقيدته، تحاشى تلبية تلك الطلبات. بعض أهلنا رفع الخِرَق البيض فوق سياراته خلال موجات النزوح ربما لطمأنة الأطفال، وكنا نشير إليهم بإنزالها فالمناطق آمنة هنا، كان المشهد وكأنه يطعن باستبسال المقاتلين هناك بعيداً على التخوم، أو على الأقل لا يعكس حقيقة ما يجري في الميدان.


كان ترك القرى قسراً أشد قسوة من الموت. الخوف الساكن في عيون الأطفال النازحين الواصلين إلى صيدا ليتوزعوا على مراكز الإيواء. قلق على الآباء والأشقاء الذين أبوا المغادرة وانزرعوا في القرى يذودون عن الأرض والرزق.
ليالي النزوح كانت طويلة لم تبدد الوحشة. في ساحة الشهداء في صيدا، أصرّ والد وابنته على النوم على العشب، فيما أمضت زوجته واثنان من بناته الوقت في إحدى المدارس، «في حال تعرضنا للقصف يبقى أحد منا على قيد الحياة».



أسرع عودة في تاريخ الحروب
قبل حلول موعد وقف إطلاق النار عند الثامنة من صباح 14 آب 2006، ازدحمت الطرقات بين صيدا والزهراني منذ الفجر. كان النازحون إلى صيدا قد وضّبوا أغراضهم منذ الإعلان عن الموعد قبل ثلاثة أيام.


جمعوا الفرش والبطانيات والثياب وشكروا المتطوعين الذين تقاسموا معهم الخبز والقلق طوال أسابيع النزوح. من لم تسعه السيارة، تشبّث على السقف أو تعلق بمؤخرة «بيك أب».


لا شيء منعهم من اجتياز الطرق المقطّعة. البعض سبح في نهر الخردلي لينتقل إلى مرجعيون وآخرون زحفوا فوق الردم في الزهراني.



يجرجرون أذيال الخيبة
كان استخدام تلك العبارة مجازياً في كثير من الأحيان في حديثنا اليومي. لكنّ معشر المصورين حظوا بمعاينتها في الواقع ظهر 15 آب في اليوم التالي لوقف إطلاق النار في سهل الخيام. من تل النحاس باتجاه المطلة والخيام، ارتسمت في السهل لوحة رائعة شكّلها مئات من جنود العدو بثياب المعركة المبقّعة دماً وعرقاً أو تبوّلاً لا إرادياً وبشعورٍ منفوشة ينوؤون بأثقال يحملونها.


صواريخ «جافلن» وحمّالات جرحى وبقايا عتاد، بخطوات متثاقلة يعبرون السهل «الممتنع» من ثكنة مرجعيون باتجاه مستعمرة المطلة يدوسون فوق بقايا حرائق اتخذت على العشب أشكال دبابات الميركافا التي احترقت بنيران المقاومين.



لنحوِ قرابة الشهر بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1701، مكث جنود العدو في المواقع التي استطاعوا احتلالها ولا تبعد عن الحدود أكثر من مئات الأمتار.


بعد 35 يوماً، عدنا إلى موقع بلاط ــ مروحين. معظم الجنود كانوا عرباً. أما الضابط فبدا من المهاجرين من أوروبا الشرقية أو روسيا. فوجئوا بمجموعة من المصورين وهم يحتمون من الشمس بدبابة الميركافا التي هُزمت في وادي الحجير. «ماذا حقّقتم في 33 يوماً؟» سألهم أحدنا من دون إجابة. «هل تعلمون أن حزب الله بات في كل مكان وصور نصرالله في الشوارع؟ لقد صار كل اللبنانيين مع حزب الله والاحتفالات بانتصاره تعمّ البلد؟» قلنا لهم.


بعد صمت متعمّد ممزوج بقهر، قال أحد الجنود: «يا عمي روحوا من هون إسى بيشوفوكن من مركز القيادة»، مشيراً بيده الى ثكنة برانيت قرب بوابة مستعمرة زرعيت القريبة.



بعد أيام قليلة عدنا في الصباح الباكر لنوثّق لحظة انسحاب جنود الاحتلال الإسرائيلي من بلاط مروحين، لكنّ الجنود كانوا في الهريبة كالغزال.


فقد غادروا تحت جنح الظلام. «ضيعان الصورة» التي لم تُلتقط. لكنّ الصيد الأهم كان صورة تلخّص النتيجة النهائية لعدوان تموز. علمٌ إسرائيلي ضخم بنسخته الأصلية عليه دمغة عبرية تشير إلى كتيبة الصيانة ويعود تاريخ صنعه إلى شباط 1998.