رغم صعوبة تلبية الدعوات التي تكثفت منذ عامين إلى العودة لزراعة القمح لضمان الأمن الغذائي، يواصل الجنوبيون حصاد حقول القمح بين سهول الخيام ومرجعيون وبنت جبيل.
وفي حين ظنّ البعض أن زراعة حقل من القمح تجعل أهل المنطقة برمّتها يؤمنون حاجتهم من الخبز ويستغنون عن ربطة الخبز التي رأوا فيها أداة ابتزازٍ من قبل الدولة بوجه الفقراء، لا تزال تكلفة زراعة القمح أغلى من سعر الطحين، نظراً إلى غلاء المواد الأولية للزراعة من بذور ومبيدات، التي أصبحت مرتبطة بارتفاع سعر صرف الدولار، فضلاً عن ارتفاع سعر المحروقات وأزمة انقطاعها في الآونة الأخيرة.

وقد أسهم ذلك في تقليص زراعة القمح؛ كما أن قدرة المزارع الشرائية لم تعد كافية ولا تسمح بخوض استثمارات ومجازفات كبيرة، خاصة في المناطق الجنوبية حيث مساحات الأرض المحدودة.

ومع ذلك، غامر البعض بزراعة مساحات صغيرة لتأمين خبزهم، إذ يعتمد بعض العائلات على خبزِه المنزلي على الصاج أو على شرائه من أحد الجيران بأسعار مناسبة.

علي زهوي، الطالب المزارع الذي استغلّ التعلم عن بعد هذه السنة لمساعدة والده في الزراعة التي توارثاها عن أجدادهما، تمسّك بالزراعة والحصاد. وبالرغم من أن الأرض التي يزرعها هو ووالده مستأجرة، وجدا فيها حبلَ خلاصٍ من الأزمة الراهنة لمحاربة الأوضاع الاقتصادية الصعبة.

في بلدته مجدل سلم، يزرع زهوي كل سنة ما يقارب تسعة دونمات، وينتج منها مئة وخمسين مدّاً تقريباً، ليسلق بعدها المحصول، ثم يقوم ببيع جزء منه لأهالي القرية. وتترك منه أمه ما يكفي احتياجات السنة كاملة من مؤونة تغنيهم عن شراء البرغل والطحين حتى الموسم التالي.

أمّا المزارع محمد شيت من بلدة كفركلا، فاضطرّ إلى تقليص محصوله هذه السنة بسبب ارتفاع الكلفة، إذ إن «الأرض مستأجرة وسعر ضمانها مرتفع، فضلاً عن عدم استحصاله على البذور من الدولة أو على الأسمدة المدعومة».

وقد لفت شيت إلى أنه يفضّل «استغلال المساحات بزراعات أخرى أسهل وذات مردود أعلى» نظراً إلى توجه العديد من المزارعين إلى هذه الزراعة تحديداً، ما يهدّد تصريف المحاصيل بسبب المزاحمة والمنافسة، مضيفاً أن «زراعة القمح خسارة للمال إن لم تتم متابعته جيّداً، بالأخص في هذه الأيام الصعبة».

وأبرز عائق أمام الزراعة تمثّل في أزمة المحروقات التي شكلت هاجساً كبيراً بالنسبة إلى شيت الذي يحتاج إلى الكثير منه للآلات المستخدمة، كالحصّادة مثلاً. يقول: «لن أستطيع إكمال عملي إذا استمر الحال، كل يوم أشحد المازوت منتظراً ساعات في الصفوف أمام محطات الوقود».

ويبدو شيت محبطاً ومتشائماً ومتخوّفاً من عدم قدرته على إعطاء العمال رواتبهم كاملة. فالدولة لم تعُد تتسلم المحاصيل كما في الماضي، وأصبح تصريفها أصعب ويقتصر على التجار المحليين وأهالي القرية الذين باتوا يشترونه لتأمين اكتفائهم الذاتي، فيصنعون منه المؤونة، كما يستخدمون الطحين للخبز.

وفي المقابل، لم يعُد شراء الكميات الكافية من خبز الأفران والدكاكين متاحاً للجميع، إذ ارتفع سعر ربطة الخبز والمعجنات، وأصبح شراء الخبز اليوم همّاً، ولا سيما بالنسبة إلى العائلات الكبيرة، كما تحوّلت المناقيش إلى وجبة رفاهية بعد أن كانت منقوشة الزعتر «ترويقة» محدودي الحال.

من أمام منزلها القروي المتواضع، تؤكد خديجة أنها تؤمّن الطحين البلدي سنويّاً من أحد التجار الذي ينتج القمح الأبيض. تشتري منه بسعر مقبول مقارنة مع السوق، وتستخدمه للعجن والخبز بكميات كافية. تقول «لدي ستة أولاد وجميعهم متزوجون، أصنع من خبز المرقوق ما يكفينا جميعاً».

تلبي خديجة بعملها الخجول طلب الجيران والأقرباء، فتصنع لهم ما يحتاجون إليه من خبز «مقابل أسعار مدروسة طبعاً». ولا يقتصر الأمر على الخبز، بل تصنع مناقيش الصاج، إضافة الى أنواع عديدة من المعجنات.