في ظلّ الضائقة الماليّة، صار «قضاء الصلاة والصوم عن أموات المسلمين» أشبه بـ«مهنة» لجأ البعضُ إليها، لعلّها تعفيه من مدّ يده إلى الآخرين. ومع أنّ «أجرة شهر صيام لا تكفي لإعداد إفطار لثلاثين يوماً، لكنّها على الأقلّ تُعين خصوصاً في هذه الظروف»، كما تقول أمّ علي «فبَحصَة تسند خابية، والقرقشة أفضل من الحرمان».
أحمد (اسم مستعار) أغلق مكتبه لتسيير الرحلات الدينيّة بعد تعليق حركة الطيران حول العالم بسبب تفشّي فيروس «كورونا». ومع فقدان باب رزقه، اضطرّ إلى «ذلّ نفسه من أجل لقمة العيش»، ومرّت عليه «ليال سود يضرب فيها الأخماس بالأسداس» كما يصف مقرّب منه، من دون أن يجد عملاً. فعرض عليه أحد أصدقائه أن يقضي هو وعائلته (زوجته وأولاده الأربعة) ما تيسّر من سنوات صلاة وأشهُر صيام عن الأموات. وهكذا عثر وعائلته على مصدر دخل مؤقّت، ريثما تستقرّ به الظّروف، بعدما تخلّى أقرب الناس عنه في أزمته.

وبما أنّ الظروف المعيشيّة الصعبة طالت جميع الفئات ولم تستثنِ أحداً، وجد عدد من الشباب المتخرّج حديثاً في قضاء الصّوم عن الأموات وسيلة جيّدة لجني بعض المال. وما ساعدهم على ذلك، الاضطرار إلى البقاء في البيت بسبب «كورونا».
زينة تخرّجت قبل سنتين، ولم تجد عملاً، فقرّرت أن تصوم شهراً عن ميّت. وعن تجربتها تقول: «أجرة صيام شهرٍ بالنّسبة إليّ جيّدة، أجمعها وأتركها لحاجتي، فأنا مسؤوليّاتي المادّيّة قليلة، ولستُ المسؤولة عن مصروف المنزل، نظراً إلى أنّني أعيشُ مع والديّ. وبالإضافة إلى الاستفادة الماديّة، أنا أحبّ الصّوم». فيما تقول زينب، التي تتابع دراستها الجامعيّة أونلاين، عن خوضها تجربة الصيام: «أردتُ أن أجني على الأقل مصروف مستلزماتي الشخصيّة، لكنّ الأمر متعب جدّاً، فخلال النّهار يفقد الصائم طاقته، ويصير أقلّ نشاطاً، ما يمنعني من القيام ببعض الأعمال، ولا سيّما الدّرس».

على عكس زينب، يقول محمّد، الذي تخرّج حديثاً وفَقَدَ عمله بسبب «كورونا»، إنّ قضاء الصّيام وكسب بعض المال منه «ممتعان للغاية وفيهما تقرّب إلى الله، وخصوصاً أنّ الرّوحانيّة تكون عالية». لكنّ «المتعة» و«الرّوحانيّة» لم تدوما طويلاً، فبعد قضاء صوم ستّة أيّام، اعتذرت إليه عائلة الميّت لأنّها وجدت مَن يمكن أن يقضي الصّوم بنصف التّكلفة.

«التسعيرة»
ورغم أنّ لا «تسعيرة» موحّدة وثابتة لسنَة الصّلاة وشهر الصيام، وأنّ الأمر برمّته خاضع لاتّفاق بين أهل الميّت والموكل بالقضاء، إلّا أنّ المتعارف عليه بحسب صاحب حملة «شهداء الإمام الحسين للحج والعمرة والزيارة» جميل حرب، أنّ 100 دولار وما فوق لسنة الصّلاة، وبين 150 و200 دولار لشهر الصيام.

لكنّ الانخفاض الحادّ بسعر صرف الليرة أطاح بـ«تسعيرة الدولار»، لتصير ما يقارب 400 ألف ليرة لسنة الصلاة، و500 ألف ليرة لشهر الصيام. ليس هذا فحسب، بل إنّ أزمة الدولار في لبنان جعلت بعض المسلمين في دول أجنبيّة يرسلون صلاة أقربائهم الموتى وصيامهم إلى عائلات أو أشخاص في لبنان، لأنّ أجرهم صار أقلّ من دول أخرى كالعراق مثلاً!

ولقضاء الصلاة والصوم عن الميّت في الإسلام أهمّية كبيرة. «لتدارك خطورة ما تُرك من صلاة وصوم، لأنّهما من الأمور الّتي لا يُعفى عن المستخفّ بهما، ولعدم عقاب الميّت لما ترك. كما أنّه باب منفعة مادّية» يقول الشيخ محمّد ياغي. والواجبُ أن يقضي الابن البكر عن أبيه ما فاته، ويُمكنُ أن يساعده إخوته، أو أن يكلّفوا من يقضي عن ميّتهم مقابل مبلغ ماليّ. وترك الصلاة والصوم قد يكون بسبب الاستخفاف، أو ظروف الشخص الخاصّة، أو تفويته عدداً معيّناً من واجباته الدينيّة خلال حياته.

واكتساب المال من قضاء الصلاة والصوم ليس وليد الأزمة الحاليّة في لبنان. فثمّة من كان قبل الآن يتفرّغ لهذه المهمّة، «تقرّباً إلى الله» من جهة، ولتأمين أساسيّات معيشته من جهة أخرى، كالفقراء، ومن لا مهنة له، وطلّاب الحوزات الدّينيّة. وتبقى فرصة قضاء ما فات الأموات في حياتهم من صلاة وصيام، آخر قشّة مال يتّكئ عليها بعض الأحياء في لبنان.