طوت بلدة بخعون ــ الضنّية، اليوم، صفحة ليس من السّهولة تعويضها، برحيل الحاج مصطفى المصري، الرجل السّبعيني بعد إصابته بنزف حاد، وهو الذي دخل قلوب أهالي البلدة والمنطقة وعقولهم، كما دخل بيوتهم التي تشهد إمّا على سهراته الممتعة، أو معالجته أحد المرضى فيها.
المصري الذي تعود أصول عائلته إلى مصر، وكانت ضمن جيش ابراهيم باشا الذي قدم إلى لبنان وبلاد الشام مطلع القرن التاسع عشر، لقّب بـ«الزبطي» كما أفراد عائلته، نسبة إلى فرقة كانت ضمن الجيش المصري تدعى «الزبطية»، استوطنوا البلدة منذ ذلك الحين؛ كما عائلات عديدة قدمت من مناطق مختلفة في بلاد كانت لا تفصلها حدود ولا عوائق.

شهرة المصري، أو «أبو خالد» كما بات يُكنّى، لم تنبع من فراغ، بل جاءت امتداداً لشهرة والده خالد، «أبو سليمان»، الذي اشتهر بأنّه كان حكواتي الضيعة؛ واتصف بروح النكتة والدعابة، كما كان يتحدث مع زوجته باللغة الإنكليزية عندما يكون هناك خلاف بينهما كي لا يعرف الأهل والجيران ما بينهما، وكان ملمّاً بالشؤون الطبّية والبيطرية، التي ورثها عنه ابنه مصطفى، وأصبحت مهنته التي اعتاش منها.



إلى جانب خفّة دمه ودعابته وجلساته وسهراته الرائعة، مارس المصري عمله كطبيب وبيطري في آن، بتجواله على منازل البلدة وجوارها لهذه الغاية بدرّاجته النّارية، قبل أن يمتلك سيارة؛ وهو حاز ثقة الأهالي كلما استشاروه في أمر له علاقة بصحتهم، ما جعلتهم يطلقون عليه لقب «دكتور» عند مناداتهم له. وكان لا يأخذ منهم بدلاً مالياً مقابل عمله إلا نادراً، أو ما يدفعونه له من مبلغ زهيد، أو بعض أغراض المونة، ما جعل صفحات التواصل الاجتماعي التي نعته بحزن شديد ونشرت تسجيلات عديدة لجلساته، تطلق عليه وصف «طبيب الفقراء».

اشتهر «الزبطي» بثقافته وغزارة معلوماته، وبلاغته وفصاحته اللغوية على وجه التحديد، وهو الذي بالكاد تابع دراسته حتى المرحلة الإعدادية، إذ إنّه حفظ ألفية ابن مالك عن ظهر قلب؛ وكان يُجوّد القرآن على نحو مدهش، وبرحيله فإن أهالي البلدة سوف يفتقدون صوته الرخيم في صلاة التراويح خلال ليالي رمضان.

سعة معرفته باللغة العربية، فضلاً عن إجادته الفرنسية والإنكليزية بطلاقة، جعلت منه مرجعاً لطلاب العلم وأساتذته معاً، وخصوصاً أساتذة وطلاب الأدب العربي، ما دفع المركز الثقافي في بخعون والمنتدى الثقافي في الضنّية إلى تكريمه بوصفه «عميد اللغة العربية في بخعون»، في حفل أقيم في 23 كانون الأول 2018، بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية.

في ذلك الاحتفال، نوّه رئيس بلدية بخعون زياد جمال، بالمصري، ووصفه بـ«الموسوعي»، واعتبره «شخصية مميّزة وفذّة، موهوبة إلى حدود الدهشة، متعدّدة المهارات».