منذ العشرينيات بدأت «الهجرة الأولى» من جنوب لبنان باتجاه بيروت، ولا سيما الى منطقة الخندق الغميق. تسارعت وتيرة الهجرة لاحقا طلباً للرزق في العاصمة ومحيطها حيث يتركّز النشاط الاقتصادي. ساهم ذلك في إحداث تغيير ديمغرافي وعمراني في تلك المنطقة، وصارت نسبة مهمّة من سكانها اليوم «مستأجرين قدامى». جاء قانون الإيجارات الجديد ليؤسّس فصلاً آخر من القصة عنوانه «الهجرة الثانية»؟
في محاذاة وسط بيروت، توجد أحياء فقيرة «مقفيّة»، هي أحياء منطقة الخندق الغميق، تقع بين جسرين، جسر البسطا التحتا وجسر فؤاد شهاب، هي ما تبقى من أحياء بيروت القديمة.
بيروت في سنة 1960: استمرّ توافد النازحين من الجنوب إلى بيروت بحثاً عن عمل. كانت موجات النزوح قد بلغت ذروتها مع فترة ما يعرف بالازدهار الاقتصادي للعاصمة الذي رافقته حركة عمرانية واسعة. الخندق في الفترة نفسها شهد تحولاً ديمغرافياً؛ فحرب الـ58 التي انتهت قبل سنتين، شارك فيها «قبضايات» الخندق «بجدارة» ضد الرئيس كميل شمعون، وكانت سبباً أولياً لبداية الفرز الطائفي هناك وبيع السريان والأرمن أملاكهم لطبقة جديدة من الملّاكين الشيعة من التجّار أو العائدين من الاغتراب.

مريم خليفة وشقيقها محمّد كانوا يومها في عمر المراهقة. هما ولدا في الخندق، أبوهما قد نزح إليه من الغازيّة في الأربعينيّات واستأجر غرفة صغيرة من رجل «أرمني»، وافتتح بقربها ملحمة. مرّت السنوات، الغرفة تحوّلت إلى بناية من خمسة طوابق، مريم تزوجت وأخوها أيضاً، وسكنا في البناية نفسها. سنة 1969، استأجرت مريم وزوجها شقّة مساحتها 150 متراً مربّعاً بـ80 ليرة شهرياً. ثماني سنوات لاحقاً، استأجر محمّد وزوجته شقة بالمساحة نفسها بـ110 ليرات شهرياً. المالك باع البناية «مع مستأجريها» في بداية الثمانينيات إلى سيدة من آل المازح بمبلغ 150 ألف ليرة. بعد أعوام عدّة أصبح إيجار الشقّة في البناية حوالى 5 آلاف ليرة، تساوي معاش موظّف تقريباً.
شخص من آل العجمي من العباسيّة يستأجر أيضاً شقة في البناية التي ما زالت إلى اليوم تعرف ببناية البعلبكي بإيجار 60 ليرة شهرياً.
يقول محمّد
«لا أملك منزلاً آخر لأذهب إليه... يقتلوني ويطلعوني»
سعاد النابلسي وزوجها جاءا في الأربعينيات من البيساريّة، وهما يسكنان الأحواش، مفردها حوش، غرفة سقفها من إترنيت تحيط بها الأشجار وتتشارك مع غرف أخرى باحات مشتركة. بيروت في سنة 1992: أقرّ البرلمان قانون تحرير عقود الإيجارات الجديدة، واستثنى العقود المعقودة قبل 1992، توقف إيجار شقة مريم وأخيها عند مليون ومئتي ألف ليرة سنوياً، وتوقف إيجار الحوش عند 360 ألف ليرة شهرياً، في حين ان عائلة العجمي كانت تنازلت قبل أشهر عن عقد الإيجار إلى إبراهيم حمّود الذي تزوّج حديثاً، مقابل بدل خلو بقيمة 5 آلاف دولار، وتوقف إيجاره عند 780 ألف ليرة سنوياً.
بيروت في سنة 2014: أقرّ البرلمان اللبناني قانون تحرير عقود الإيجارات المعقودة قبل عام 1992. 22 عاماً قد مرّت إلى الآن، تضاعفت أسعار الشقق أكثر من 8 مرّات، فيما تجمّدت الأجور منذ عام 1996 حتى عام 2012.
الآن يقدّر سعر المتر المبني في الخندق الغميق بـ3500 دولار وسعر متر الأرض بنحو 11500 دولار. وهذه الأسعار تعتبر متدنيّة بالمقارنة مع الاسعار في وسط بيروت المتاخم. وهو ما يفتح شهية المضاربين والشركات العقارية؛ فمنذ سنوات تشهد هذه المنطقة عمليات استحواذ على عقاراتها، أبطالها كثر، منهم شركة «عالية» وشركة «الباشورة».
في زاروب الحراميّة حيث بناية البعلبكي، يروي أبناء الحي أن شركة «عالية» اشترت إلى الآن 5 أبنية، البعلبكي والفيل ومطر واثنين لآل أرناؤوط، إضافة إلى الملعب البلدي المطل على وسط بيروت. يواجه سكّان بناية البعلبكي دعاوى قضائية، فهم يرفضون التعويضات الزهيدة التي تدفعها لهم الشركة للإخلاء. يرفض إبراهيم حمّود تعويض بقيمة 40 ألف دولار أقرّته له المحكمة. يقول «لدي عائلة مؤلفة من ستّة أفراد. إلى أين أذهب؟ هل يكفي هذا التعويض لشراء غرفة واحدة في بيروت؟». المباني الأخرى لا يعرف المستأجرون إلى الآن مصيرهم. أحد الأبنية بيع للشركة بمبلغ 900 ألف دولار فقط، بحسب ما يتناقله أبناء الحي.
يشعر أبناء الخندق الغميق أن منطقتهم مستهدفة بالمضاربات العقارية، نظراً لميزة موقعها الجغرافي. فكيف بعد إقرار قانون الإيجارات الجديد الذي شرّع إخلاء المستأجرين لأغراض هدم الابنية؟ يشعرون أنهم على وشك بدء هجرتهم الثانية، ولكن الى أين؟ هنا حياتهم وذاكرتهم تختزنها بيوت ذات أسقف عالية وشرفات رخاميّة ونوافذ ملوّنة من حقبة ما قبل الاربعينيات، وعمارات بنيت في الستينيات ذات أربع أو خمس طبقات، نوافذها مستطيلة خشبيّة خضراء أو زرقاء، ومبان أخرى تغزوها ثقوب الرصاصات والقنابل من أيام الحرب.
البعض يردّ على القلق من محو أحياء قديمة بسبب هذا القانون بأن المستأجرين لديهم 9 سنوات من الآن ليتمسكوا بمنازلهم وشققهم، ولكن القانون تحوّط لاحتمال تجدد الصراع، وقضى برفع بدلات الإيجار بمستويات يعجز معظم المستأجرين القدامى عن الإيفاء بها والصمود. سيكون دائماً هناك من يعرض على المستأجر الاخلاء مقابل تعويض زهيد يكفيه للرحيل. بدلات الإيجارات القديمة سيتم تحديدها بنسبة 5% من قيمة المأجور سنوياً، بحسب ما ينص قانون الإيجارات الجديد، وسيتم بلوغ هذا الهدف تدريجاً على مدى ست سنوات، 15% من قيمة بدل المثل ستضاف الى بدل الايجار في السنة الاولى، وتضاف النسبة نفسها على مدى أربع سنوات، ثمّ تضاف نسبة 20% في آخر سنتين لتصل إلى 100% من بدل المثل.
يقدّر سعر شقّة مساحتها 150 متراً في بناية مازح بنحو 375 ألف دولار، لكون معظمها لا يزال في حالة جيّدة، بدل المثل على أساس شهري سيبلغ 1562 دولاراً. في السنة الأولى سيرتفع الايجار الى 234 دولاراً شهرياً، والى 468 دولاراً في السنة الثانية، ثم الى 702 دولار في السنة الثالثة، وهكذا دواليك، حتى بلوغ الإيجار البدل المستهدف في السنة السادسة.
مريم ومحمّد تجاوزا سبعين عاماً. توفي زوج مريم وتوفيت زوجة محمد. تسكن مريم مع ابنتها، بينما ينوي محمد أن يزوّج ابنه ويسكنهما معه. الاثنان مدخولهما العائلي أقل من ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور، أي إنهما سيستفيدان من خدمات الصندوق «الغامض» الذي سيموّل من خزينة الدولة، لو سارت الأمور كما يرسمها القانون وساعدهما الصندوق، فماذا سيحدث بعد مضي ست سنوات؟ يقول محمّد «لا أملك منزلاً آخر لأذهب إليه؟»، «يقتلوني ويطلعوني».
يبلغ متوسط مساحة كل حوش حوالى 100 متر مربّع. هنا تقع الكارثة. فالحوش لا يقع في مبنى، بل يشغل مساحة من أرض العقار، وبالتالي يقدّر سعر متر الأرض بنحو 11500 دولار، أي إن سعر العقار الذي يقوم عليه الحوش يقدّر بنحو مليون ومئة وخمسين ألف دولار، ومعنى ذلك أن إيجاره الشهري سيبلغ 4791 دولاراً. ليس سكّان الحوش غير قادرين على الدفع فقط، بل الدولة قد لا تكون قادرة أيضاً. هنا تظهر مشكلة جديدة. ماذا ستفعل الدولة مع البيوت خارج الابنية؟ تقول سعاد التي تجاوز عمرها الثمانين، «بعد ست سنوات، إن بقيت على قيد الحياة، فلن أخرج من بيتي. فليخرجوني بالقوّة».