عرفت غالبية الإمبراطوريات والبلدان تاريخياً حرائق كبيرة طبعت التاريخ، من حريق روما الكبير إلى حريق لندن الكبير وغيرهما. وككلّ الأحداث الاستثنائية التي تساهم في تطوّر أساليب البقاء على قيد الحياة، ساهمت بعض الحرائق في ظهور أول ملامح جهاز الدفاع المدني الذي نعرفه اليوم. وبالطبع، من العصر الروماني حتى يومنا هذا، اختلفت الأدوات والأساليب التي يستخدمها من تُوكل إليهم مهمة حماية مدنهم وأهلها من الحرائق القاتلة والمدمّرة.
جذور تعود إلى العصر الرومانيّ
يُرجّح أنّ الجذور الأولى لقوات مكافحة الحرائق المنظّمة تعود إلى العصر الروماني، وتحديداً في عام 23 قبل الميلاد. فقد شكّل القائد العسكري والإمبراطور أغسطس، أوّل فرقة مؤلّفة من 600 إطفائي من العبيد الذين كانوا يُعرفون باسم «فاميليا بابليكا» (Familia Publica). وتمّ تنظيم هذه المجموعة بشكل يشبه إلى حد كبير تنظيم الدفاع المدني الذي نعرفه اليوم. وكانوا ينتشرون على أبواب المدن ويحذّرون السكان من اندلاع الحرائق ويساهمون في إخمادها ومساعدة الناس في الحالات الحرجة.
بيد أنّ أداء الإطفائيين الأوائل لم يُرضِ تماماً أغسطس. فهم لم يبدوا مستعدين للمخاطرة لإطفاء الحرائق ولم يلاحظوا في معظم الأحيان اندلاعها في الوقت المناسب. وبعد اندلاع الحريق الكبير في روما في العام السادس الميلادي، تمّ استبدال هذه الفرقة بفرقة جديدة من العبيد المحرّرين، بلغ عددهم نحو 7 آلاف شخص، وعُرفوا باسم «ذا فيغيلز» (The Vigiles). وأُوكلت إليهم بالتالي مهمّة حماية المدينة وسكانها البالغ عددهم نحو مليون شخص من الحرائق وحراستها ليلاً لمدة 500 سنة مقبلة. فقُسّمت المهام داخل هذه الفرقة على الشكل التالي: «رجل الصنارة» الذي يحمل أداة تشبه الصنارة بهدف إزالة السطوح المحترقة، رجل الإطفاء المسؤول عن الإشراف على المهمات وعمل مضخّات المياه، ورجل الإطفاء الذي كانت مهمّته تزويد المضخات بالمياه وتنظيم سلاسل إطفاء الحريق بالسطول، وقائد المجموعة. وتمّ استخدام الحبال ومضخات قوية يصل ارتفاعها إلى 20 أو 30 متراً.
وطُبّق قانون يفرض ضريبة بقيمة 4% على رواتب العبيد لدفع معاشات أعضاء هذه الفرقة التي سرعان ما تطورت لتصبح واحدة من أقوى المنظمات النخبوية في البلاد. وجهاز الإطفاء الحالي هو النتيجة المباشرة لـ«ذا فيغيلز». ويرجِّح بعضُ المؤرّخين أنّ هذه المجموعة وُجدت في مناطق عدة من الإمبراطورية وقد تكون وصلت إلى بريطانيا أيضاً.
أوّل امرأة عملت في الإطفاء هي: مولي ويليامز، عبدة من مدينة نيويورك، قريب عام 1815


وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، غابت فرق إطفاء الحرائق المنظّمة نحو ألف سنة تقريباً، فالحرائق التي تندلع كانت قادرة على تدمير مدن بأكملها. وبعد الغزو النورمندي لإنكلترا، اقتصرت مكافحة الحرائق على أوامر بـ«إطفاء الأنوار» كان ويليام الفاتح يفرضها على سكّان المدينة لإطفاء أي نيران مشتعلة داخل منازلهم ليلاً باستخدام غطاء معدني في أغلب الأحيان. أمّا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فكانت السلطات الكنسية أو المحلية تؤمّن، من وقت إلى آخر، وسائل بسيطة تمكّن السكان من مكافحة الحرائق كسطول المياه. ثمّ جاء حريق لندن الكبير ليشكّل نقلة نوعية في عالم إطفاء الحرائق.

حريق لندن الكبير
لا يُعرف الكثير عن تاريخ الحرائق التي اجتاحت أوروبا قبل حريق لندن الكبير عام 1966. فدمّر هذا الحريق الشهير الذي اشتعل في مخبز 13 ألف منزلٍ و84 كنيسة ومعظم المباني، ولم يتوقّف حتى طُلب من الجيش تدمير المنازل التي تقع في مسار الحريق كي تختفي المواد التي تغذيه. ونتج عن هذا الحريق أمران أساسيان: إنشاء أولى معدّات إطفاء بدائية وبدء ظهور أُولى فرق إطفاء منظّمة في البلاد. كما ازدهرت في تلك الفترة شركات التأمين الخاصة بالحرائق.
وتمّ إنشاء شركات منظمة للحماية من الحرائق وطُلب من جميع السكان اقتناء عدد معين من معدات مكافحة الحرائق. وبعد الخسائر الكبيرة التي تكبّدها السكان بسبب الحريق، استغل بعض رواد الأعمال الفرصة لإنشاء شركات تأمين ضد الحرائق كان أُولاها عام 1667. وكانت هذه الشركات التي تتسابق لإظهار بدلاتها المرتبة ومعداتها الملوّنة وقوانينها الجازمة لاستقطاب الزبائن، تتولى ثلاث مهمات أساسية: وضع علامة معينة على المباني التي تتعامل معها لتمييزها، تدريب رجال الإطفاء، والرجال الذين يتولون حماية هذه المباني المعيّنة فقط. وأصبح رجال الإطفاء التابعون لهذه الشركات يشكلون أُولى فرق إطفاء منظمة في إنكلترا.
وبحلول عام 1721، قام المخترع البريطاني، ريتشارد نيوشام، بتطوير أول مضخّة تدار بواسطة رجلين فقط عن طريق عتلة تُحرك جيئةً وذهاباً، محرّكة معها مكبساً يضخ الماء في صنبور نحاسي فيخرج الماء حتى ارتفاع أربعين متراً تقريباً.
وحاولت السلطات المحلية في ما بعد تأمين المعدات والمياه اللازمة إلا أنها لم تتمكن من منافسة هذه الشركات. ولكن مع تزايد الأضرار الناجمة عن الحرائق ولا سيما في المدن الصغيرة والقرى التي بقيت بلا أي وسائل فعلية للحماية من الحرائق، بدأت هذه السلطات بتقديم خدمات الحرائق الخاصة بها. فأنشأت أول خدمة إطفاء تابعة للبلدية في "إيدنبرغ" عام 1824، وبعد سنتين أصبح لمدينة «مانشيستر» خدمة الإطفاء الخاصة بها. وبدأت تنحلّ الفرق التابعة لشركات التأمين بعد هذه الإجراءات بشكل تدريجي.
وفي الواحد من نيسان/أبريل 1853، أصبحت إدارة الحرائق في سينسيناتي أوّل إدارة محترفة مدفوعة الأجر من هذا النوع تعمل بدوام كامل في الولايات المتحدة. كما أصبحت أوّل فرقة تستخدم محركات الإطفاء البخارية في العالم. وقد تمّ اختراع عربات الإطفاء ذات المحرك البخاري التي تجرّها الأحصنة عام 1829 إلا أنه لم تتم الموافقة عليها قبل عام 1860.

بين الحربين العالميّتين
طبعت الحرب العالمية الأولى القرن العشرين. فاضطرت فرق الإطفاء إلى التعامل مع أنواع جديدة من الحرائق الناتجة عن القنابل والذخائر والمواد الكيميائية. وازداد بالتالي عدد هذه الفرق والمنظمات بهدف تطوير علم مكافحة الحرائق وتوحيد المعايير، علماً أنّ كلّ بلد كان يمتلك فرق مكافحة الحرائق الخاصة به.
وفي عام 1938، وُقّعت اتفاقية فرق الإطفاء الأساسية في إنكلترا، والتي قضت بإلغاء فرق الإطفاء التابعة لشركات التأمين ومنح السلطات المحلية مهمّة مكافحة الحرائق. بيد أنّ الظروف تغيّرت خلال الحرب العالمية الثانية وظهرت خدمة الدفاع المدني في بريطانيا الكبرى.
فمع ازدياد حدة التوترات السياسية في أواخر الثلاثينيات، نشأت خدمة الدفاع المدني التطوّعية في بريطانيا الكبرى بأمر من الحكومة، عام 1935، وعُرفت أوّلاً باسم «احتياطات الغارة الجوية» قبل أن تتخذ اسم خدمة الدفاع المدني عام 1941. وضمّت هذه الخدمة فرق الإسعافات الأوّلية وحراس النار وفرق الإنقاذ وفرق نقل الجرحى إضافة إلى فرق الإطفاء ومن ضمنها ما عُرف بـ«خدمة مكافحة الحرائق المساندة» (AFS) عام 1938. كان هدف هذه الفرقة مساندة رجال الإطفاء الأساسيين. وبرز دورها ودور خدمات الدفاع المدني خلال فترة قصف لندن أو ما يُعرف بـ«ذا بليتز» حين قام الألمان بقصف المدينة لمدة 57 ليلة متتالية. وانضم إلى هذه الخدمة نحو 1.9 مليون شخص تمّ توزيعهم وتدريبهم على مختلف المهام، من مراسلين هدفهم نقل معلومات من أماكن وقوع الكارثة وفرق مكافحة التلوّث بالغاز والفرق الطبية وغيرهم. كما عرفت الانضمام الأول لعدد كبير من النساء في مجال مكافحة الحرائق، واللواتي عملن كسائقات للمركبات ومراقبات للحرائق، إلا أنهن لم يعملن مباشرة في إخماد الحرائق. وبلغ عددهن 70 ألف امرأة تقريباً. والجدير بالذكر أنّ المؤرّخين يرجّحون أنّ أوّل امرأة عملت كامرأة إطفاء هي: مولي ويليامز، عبدة من مدينة نيويورك، قريب عام 1815.

المنظمة الدوليّة للحماية المدنيّة
انبثقت المنظمة الدولية للحماية المدنية في عام 1931 من منظمة «مشارف جنيف». وكان الطبيب جورج سان بول، مؤسس جمعية «مشارف جنيف»، التي كان يشير من خلالها إلى مدينة جنيف مسقط رأس هنري دونان، مؤسس حركة «الصليب الأحمر»، يرمي إلى إيجاد مناطق محايدة أو آمنة يمكن للمدنيين اللجوء إليها في حالة الحروب والنزاعات. وفي عام 1958، أصبحت المنظمة الدولية للحماية المدنية منظمة غير حكومية بعد أن كانت جمعية. وفي سنة 1966، تمّ اعتماد دستور للمنظمة. وصادقت على هذا الدستور 18 دولة من الدول الأعضاء. وفي الأوّل من آذار/مارس سنة 1972، دخل دستور المنظمة حيّز التنفيذ وبدأ سريان العمل به من قبل جميع الدول الأعضاء.
وحدّدت المنظمة التي تضم 58 بلداً، من ضمنها لبنان، خلال جمعيتها العامة التاسعة التي عُقدت في جنيف عام 1990، اليومَ الأوّلَ من آذار اليوم العالمي للدفاع المدني. فتحتفل الدول الأعضاء بالمنظمة الدولية للحماية المدنية بهذا اليوم كتقدير وشكر لجهود أعضاء الدفاع المدني وتضحياتهم في سبيل خدمة البشرية وحمايتها.
أمّا اليوم، فأصبح لدى الدفاع المدني معدّات أكثر تطوّراً تسهّل القيام بالمهامّ الإنسانية في فترات الكوارث أو الحروب وتسمح لهم بالاستمرار في خلق الظروف الملائمة لبقاء الناس على قيد الحياة في الظروف الصعبة، عبر إخماد الحرائق التي تحيط بهم وإنذارهم والمساعدة في إجلائهم وتأمين المأوى والخدمات الطبية والعامة الضرورية لهم.