البحث في إلغاء الدعم أو ترشيده سرق الأضواء من قضايا أخرى «هامشية»، في مقدمها إدارة النفايات الصلبة التي تراجعت الخدمات فيها على كل المستويات؛ إذ تراجعت أعمال الكنس بشكل ملحوظ في كل المدن والبلدات اللبنانية. وبحسب مصادر معنية، لم يتقدم أحد الى مناقصات جديدة للكنس خارج نطاق العاصمة، ما يعني عودة قريبة إلى تراكم النفايات وسد مجاري المياه والتسبب في مزيد من الفيضانات مع دخولنا في فصل الشتاء. نقص التمويل ومطالبة الشركات بتقاضي مستحقاتها بالدولار وفق سعر السوق الموازي أدّيا، أكثر من مرة، إلى توقف عمليات الجمع في بيروت وقسم من جبل لبنان، كما توقف (أو استمر بتقطّع) رش مادة الكلس حول المستوعبات لمنع تكاثر الحشرات. ومع توقف معامل الفرز والتخمير في الكرنتينا بعد الأضرار التي لحقت بها عقب انفجار المرفأ (وهي لم تكن مجدية أساساً)، زادت كمية النفايات التي تذهب الى المطامر، ما سرّع في انتهاء عمرها الافتراضي، وأبرز مجدداً الحاجة الى مطامر جديدة، وبالتالي مشاريع جديدة لردم البحر تحت عناوين «طارئة»، كما جرت العادة.وكانت حكومة تصريف الأعمال وافقت، بشكل استثنائي، على توسعة مطمر الجديدة بمساحة 40 ألف متر ليستوعب 550 ألف طن من النفايات خلال سنة ونصف سنة. قرار «التوسعة» أتى بعد قرارين سابقين بـ«تعلية» المطمر متراً ونصف متر في المرة الأولى، ومتراً في المرة الثانية. وأخيراً، طُلب من المتعهد تعلية المطمر، للمرة الثالثة، متراً إضافياً أيضاً إلى حين الاتفاق على كلفة التوسعة وكيفية دفعها؛ إذ عرض المتعهد حسم مليوني دولار من الكلفة البالغة عشرة ملايين و600 ألف دولار، على أن يتقاضى المبلغ المتبقي بالدولار لا بالليرة، وهو ما لم يتم الاتفاق في شأنه بعد، علماً بأن عمليات الفرز والتخمير قد توقفت وبات كل شيء تقريباً يذهب الى الطمر، فيما لا تتجاوز كلفة الجمع والطمر مع الحدل والترتيب 11 دولاراً للطن، وفق السعر الرسمي (1507 الذي يهدد المتعهد بعدم الاستمرار في قبوله!
في غضون ذلك، لا يزال مطمر كوستابرافا يستقبل نحو 1200 طن يومياً على الأقل، بدل 1000 طن كما كان مقرراً، ما يعني اقتراب موعد انتهاء قدرته الاستيعابية، فيما لا يزال معمل العمروسية للفرز والتخمير متوقفاً لنقص في التمويل يقدّر بمليوني دولار للتجهيزات. وتتحدث مصادر أخرى عن تعثرات أيضاً في مطمر طرابلس بسبب ارتفاع كلفة الـ«ممبرين» الذي يستخدم في تغليف المطامر. وليس الوضع بأفضل في أي منطقة أخرى، حتى تلك التي ترمي نفاياتها في الوديان أو في مكبات عشوائية بأقل كلفة مادية ممكنة. والأزمة مهدّدة بالتعاظم مع اقتراب رفع الدعم عن المحروقات.
في ضوء ذلك كله، يمكن تخيّل حجم الكارثة لو أن الحكومات السابقة، منذ عام 2010، نفّذت خطط اعتماد المحارق، بقروض تتجاوز ملياري دولار، وبكلفة معالجة للطن على باب المعمل تصل الى 120 دولاراً (إذا كانت تريد الالتزام بالشروط البيئية)! فالدولة غير القادرة اليوم على دفع 11 دولاراً كلفة الطمر للطن الواحد (كأرخص إجراء)، كيف كانت ستدفع 120 دولاراً في ظروفها الحالية لحرق الكمية نفسها؟ وكيف كانت سترد ديونها؟ ومن كان سيراقب الالتزام بشروط العقود لإبقاء هذه العمليات الخطرة والمكلفة تحت السيطرة؟
شكراً كبيرة يُفترض أن توجّه اليوم الى كل من عارض خيار الحرق منذ البداية، فيما ينبغي محاسبة السماسرة الذين روّجوا طويلاً لخيارات الحرق المكلفة على كل الأصعدة، وأسهموا في إفشال كل الخطط البديلة بسيطرتهم على الحكومات والوزارات المعنية وقسم كبير من البرلمان والبلديات الكبرى، وبالتالي محاسبة من هم في مراكز القرار على تضييعهم الوقت والفرص في الفترة السابقة التي كان يمكن أن توضع خلالها استراتيجيات مختلفة، وعلى عدائيتهم للأفكار البديلة.
بعد هذه الأزمة الخطيرة المرشحة للتفاقم في الأيام المقبلة، وبعد أن نصبح أمام خيارات من نوع: هل نصرف «القرشين الباقيين» على تأمين الخبز والدواء أم على معالجة الفضلات، فإن الدرس الأهم الذي ينبغي استخلاصه هو أن وضع الاستراتيجيات والسياسات الوطنية المتواضعة، أولى من استيراد المفاهيم والتقنيات الغربية؟ وأن الانبهار بأوهام التقدم والتفوق لا يعدو كونه مشاريع استثمارية لن تكون مفيدة عندما «تحزّ المحزوزية»!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا