«معاش اللبناني صار بيسوى صباط، أو حتى أقل». يبقى هذا التشبيه «الواقعي» منقوصاً ما لم نحدّد ماركة «الصباط» لتبيان حجم المصيبة. فحذاء من صنع Christian Dior، مثلاً، قد يتخطى سعره بسهولة الـ 1000 دولار. وهذه كانت، تقريباً، قيمة متوسط رواتب اللبنانيين قبل انهيار سعر الصرف. فيما اليوم محظوظ من يساوي راتبه ثمن حذاء سعره 200 دولار. أما في حالة من يتقاضون الحد الأدنى للأجور فقيمة الراتب باتت تعادل حذاء قيمته 80 دولاراً. معطيات جعلت من الصعب على كثيرين شراء أحذية جديدة، وهو ما أعاد تنشيط عمل «الكندرجيي» في «تزبيط» ما أمكن «تزبيطه» من الأحذية القديمة والمستعملة.اعتقد «الكندرجيي» أن مهنتهم أصبحت ذكرى من الماضي، وهي التي عرفت أمجاداً، ترافقت مع ازدهار صناعة الأحذية التي كانت، قبل الحرب الأهلية وخلالها، تضاهي الأحذية الفرنسية والإيطالية من حيث الجودة. عاد السلم وجلب معه حرباً من نوع آخر، قضت على صناعة الحذاء اللبناني وعلى عمل الإسكافيين، بعد إغراق السوق بالأحذية المستوردة والرخيصة الثمن. هكذا، اندثرت تدريجياً الورش والمتاجر الصغيرة التي كانت تملأ الأسواق في برج حمود وطرابلس وصيدا وغيرها من المناطق، وغابت عنها رائحة البويا وأصوات الشواكيش والمسامير التي تركّب نعالاً جديدة....
لا يجد غارو كولكوليان، صاحب مشغل New York العريق في الجديدة، أفضل من توصيف أن «الناس جنّت»، للحديث عن الإقبال الكبير للزبائن. عمر المشغل يقارب القرن، حرفة عائلية متوارثة أباً عن جد، قضى فيها غارو حوالى 50 عاماً وهو يصنّع الأحذية أو يصلحها.
كان الحذاء علامة لـ«الفخفخة والتشاوف الاجتماعي»: قل لي ماركة الحذاء الذي تنتعله، أقل لك من أنت. وكان الناس، وفقاً لغارو، «يستسهلون رمي الأحذية القديمة واستبدالها بأخرى جديدة. اليوم الجميع يقصدنا وفي مقدمهم المرتاحون مادياً. الجميع متساوون أمام الإسكافي».
إقبال كثيف مع اقتراب فصل الشتاء لإصلاح الجزمات والبوتينات والأحذية الشتوية

يشير كولكوليان إلى أن «الهجمة بدأت منذ شهري نيسان وأيار، ونمت بشكل هائل في الأسابيع الماضية مع اقتراب فصل الشتاء لإصلاح الجزمات والبوتينات والأحذية الشتوية». واللافت هو التبدل في نوعية الزبائن، «فالكثير ممن يقصدوننا هم من زبائن Aïshti الذين كانوا يشترون الحذاء بأكثر من 500 دولار وأحياناً 1000 دولار. سابقاً كانت غالبية زبائننا ممن يشترون أحذية لا يتخطى سعرها الـ 150 دولاراً». بسخرية، يقول: «شو الغريب بالموضوع، إذا Aïshti صار يبيع مواد غذائية»!
فرضت الأزمة الخانقة «توريث الحذاء». يقول «أبو علي»، الكندرجي الطرابلسي العتيق، إن «كثيرين اليوم يقصدوننا طالبين تصغير أحذية أو توسعتها لتلائم قدمي فرد آخر من العائلة».
كما غيرها، لم تسلم مهنة «الكندرجي» من الغلاء، ما فرض على الإسكافيين خفض أرباحهم إلى الحد الأدنى للاستمرار والعمل بعد الجمود الذي عرفته مهنتهم. علماً أن لا خيار إلّا الحد من الكلفة على الزبائن، فحتى أبسط «التزبيطات» باتت مكلفة بمقاييس اليوم. يشرح كولكوليان أن «كعبية حذاء رجالي كانت تكلفنا دولارين أي 3 آلاف ليرة وكنا نتقاضى نحو عشرة آلاف ليرة أي نحو 6 دولارات. اليوم، الدولاران يساويان أكثر من 16 ألف ليرة ونتقاضى 20 ألفاً، فنربح 4 آلاف ليرة. إذ يستحيل أن نسعر 8 آلاف ليرة للدولار. من يمكنه دفع 48 ألف ثمن كعبية حذاء؟». أما «جوز الكعب النسائي الرفيع فسعره دولاران ونصف دولار تقريباً، وكنا نتقاضى 20 ألفاً. اليوم الدولاران ونصف الدولار تساوي أكثر من 20 ألف ليرة، ونضطر إلى تقاضي بين 35 ألف ليرة و40 ألفاً».
بعدما كانت الأسواق تضج بـ«الكندرجيي»، هجر كثيرون منهم الحرفة التي فقدت بريقها مع الاعتقاد بانتفاء الحاجة إليها. «لم تكن المهنة حكراً على الفقراء وشغلة مين ما الو شغلة، بل على العكس كان إتقانها يتطلب مهارات عالية، وكانت تؤمن مردوداً عالياً ومعيشة لائقة لأصحابها»، على ما يقول أبو علي الذي يتحسّر على مهنة «لن نتمكن من توريثها لأجيال أخرى لأسباب عدة، منها ضعف مردودها وقلة جاذبيتها للشباب. قد تكون الضائقة الاقتصادية أعادت بعضاً من الروح إلى السكافة، لكننا نلفظ الأنفاس الأخيرة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا