لا شك أنّ انطلاقة العام الدراسي الحالي ستحمل كثيراً من الهواجس والتساؤلات، سواءً من التلامذة وأهاليهم، أو إدارات المدارس والمعلمين، وكل من يعمل في إطار المنظومة التعليمية. ومن حقّنا، كتربويين وباحثين، أن نشاركهم هذه الهواجس المشروعة. فأكثر ما يتردّد على لسان الأهل: هل نغامر بإرسال أولادنا إلى المدارس في ظلّ تفشّي الوباء؟ وهل عملت المدارس على تطوير إمكانياتها ومواردها لإنجاح التعليم عن بُعد؟ وهل يضمن هذا التعليم الاستقرار النفسي والتربوي والتطور التعلّمي لأولادنا أم أننا سنعاني التجربة السابقة نفسها باستخدام وسائل وتقنيات غير تفاعلية وغير ممنهجة، واللجوء إلى اتّباع مقاربات مبسّطة لهذا التعليم، وبالتالي نأخذ بأولادنا إلى مستقبل مجهول؟
لا خلاف أن هذه الأسئلة مشروعة، خصوصاً تلك المتعلّقة بفعالية التعليم عن بُعد. وهذا يدفعنا كباحثين وتربويين إلى طرح تساؤلات أكثر تفصيلاً:
- هل ستعمل المدارس على توفير منصّات تعليمية رقمية متنوعة الموارد (فيديوهات، مقاطع صوتية، وثائق، مستندات، تجارب بالمحاكاة، كتب إلكترونية متعلقة بالمنهج، كتب تعليمية اختيارية، مقالات علمية وأدبية، مواقع إلكترونية)؟
- هل سيتمّ اعتماد استراتيجيات وطرائق ووسائل تكنولوجية وأنماط تعليم متنوعة (صفوف افتراضية متزامنة ومباشرة، تعلم ذاتي، التعلم غير المتزامن والتعاوني، المناقشات الافتراضية، التقصي والبحث القائم على التكنولوجيا، الصفوف المقلوبة Flipped classrooms، ....) حسب مقتضيات الأهداف والكفايات التعلمية المطلوب تحقيقها عند المتعلمين؟
- هل سيتم تأمين الإنترنت المجاني للتلامذة والمعلمين والمدارس وللمواقع التعليمية (Whitelisting) طيلة السنة الدراسية.
- هل سيتم فعلاً توفير أجهزة إلكترونية (كومبيوتر، آيباد..) لجميع المعلمين والتلامذة؟
- هل تم تدريب المعلمين والتلامذة والعاملين في القطاع التعليمي على مهارات التعليم عن بُعد وتقنياته بشكل كافٍ؟
- هل تم تدريب التلامذة على مهارات التعلم باستقلالية (استخدام التقنيات بكفاءة، حسن إدارة الوقت التعلمي، التعامل مع الموارد والمحتوى الرقمي من فيديوهات واختبارات وملفات، وغيرها بكفاءة)؟
- هل تم تدريب التلامذة على حسن إدارة البيئة الفيزيائية للتعلم خصوصاً في المنزل (الإضاءة، التهوئة، كيفية الجلوس أمام الكومبيوتر أو الجهاز المستخدم، تجنب المشوشات خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي...) لما لذلك من تأثير في الجوّ النفسي للمتعلم وانعكاسه على فعالية اكتساب التعلم؟
- هل تم تدريب الأهل على كيفية متابعة أولادهم من خلال المنصات والبرامج والتقنيات التي ستُعتمد لناحية مراقبة إنجازاتهم، ومتابعة نشاطاتهم وتفاعلهم وتحصيلهم الدراسي؟
- ما هي آلية التقويم التي ستُعتمد عن بُعد؟ هل سيضمن هذا التقويم مصداقية في قياس ما ينبغي قياسه عند المتعلمين؟ هل سيكون مستمراً أم فصلياً؟ وهل سيتسم بالتنوع والشمولية (اختبارات تكوينية وتقريرية sommative and formative، أنشطة، مشاريع، أبحاث، تمارين...)؟ وهل سيراعي الفروقات الفردية بين التلامذة؟ وهل سيضمن تحقيق العدالة التعلمية بحدّها الأدنى؟
- هل خضعت جميع الإدارات المدرسية للتدريب على استخدام التقنيات الضرورية، وعلى كيفية المتابعة اليومية للأنشطة التعليمية ورصد الحضور والغياب وكيفية التواصل مع الأهل والتلامذة؟
لا شك في أن التساؤلات المحيطة بإشكالية التعليم عن بُعد كثيرة، والإجابة المنوطة بفعالية هذا التعليم وجدواه أصبحت رهناً بالأيام المقبلة، وإن تكاد النتائج تكون معروفة مسبقاً. فالتجربة السابقة لم تكن مشجّعة، والتجربة العتيدة التي سنخوض غمارها دونها مخاطر وتحدّيات جمّة لا نملك القدرة والإمكانات الكافية لمواجهتها. وكي لا تنطبق علينا مقولة آينشتاين: «من الغباء أن تعيد التجربة مرتين بالظروف والإمكانات نفسها وباستخدام الأدوات ذاتها، وتتوقّع نتائج مختلفة»، يصبح ضرورياً بذل أقصى الجهود لتمكين المتعلمين من التعلم الحضوري ولو بنسبة أقلها المناصفة مع التعليم عن بُعد، أي اعتماد التعليم المدمج أو الخليط Blended، كونه الأكثر ملاءمة لكل أطراف العملية التعليمية - التعلمية في ضوء ظروفنا المعقدة وإمكاناتنا الضعيفة، وحلاً مقبولاً لتقليص هوّة العدالة التعليمية بين التلاميذ. كما تفرض ظروف التعلم عن بُعد أن يكون مكمّلاً للتعليم الحضوري، وليس منطلقاً لتعليم أهداف تعليمية جديدة، حتى ولو تطلّب الأمر تأجيل العام الدراسي لفترة مقبولة، إفساحاً في المجال أمام المدارس لتوفير كل مستلزمات البروتوكول الصحي الموصى به، والقيام بالتدريبات اللازمة لتقنيات التعلم عن بعد (للمعلمين والتلامذة والأهل)، وإتاحة الفرصة للمدارس الرسمية لتأمين كل المتطلبات اللوجستية للتعليم.
التجربة السابقة لم تكن مشجّعة والتجربة التي سنخوض غمارها دونها تحدّيات لا نملك القدرة لمواجهتها
اعتماد التعليم المدمج ضمن خطة وتدابير وقائية فعالة، سيحمي مستقبل أولادنا العلمي ويحول دون خسارتهم سنة دراسية جديدة، ويعيد تسريع تنمية شخصياتهم الإنسانية، خصوصاً مع التوقعات العالية باستطالة أمد الأزمة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة خسارتهم الحياة كما يهوّل البعض إذا ما تم بذل أقصى جهود التعاون بين الأهل والمدارس في تحمّل المسؤولية وحثّ التلامذة ومراقبتهم المستمرة للالتزام بالتدابير الوقائية اللازمة (وضع كمامة، تعقيم دوري، الحفاظ على التباعد). فنحن لا نريد أن يتحول أولادنا إلى كائنات افتراضية هشة تمتلك «ذاكرة معرفية بيضاء»، بل نريدهم على غرار ما أرادته التربية لهم، أن يكونوا أفراداً اجتماعيين يتمتعون بالمهارات المتكاملة (معرفياً، وجدانياً، حركياً، عاطفياً، اجتماعياً...). والتجارب العالمية الرائدة من حولنا في اعتماد تجربة التعليم المدمج في ظل وباء كورونا جديرة بالاقتداء ودافع لاتّخاذ القرار الجريء للسير فيه.
* باحث تربوي
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا