في الرابع من آب الماضي، حلّ الخراب في بيروت دفعة واحدة بعدما أباد الانفجار - الكارثة مرفأها وعدداً كبيراً من مبانيها محيلاً إياها كوماً متفرقة من الركام. بعد أكثر من شهرٍ على الانفجار... لم يتغيّر شيء! أبنية مكوّمة على نفسها، وشوارع وأزقة تملؤها النفايات والردميات، فيما الدولة تقف متفرّجة على حياة الناس العالقة تحت هياكل الخراب، من دون أن تقوم بما هو بديهيّ، والذي لا يتعدى مسألة تنظيف مكان الانفجار، بعدما تحوّل ملف معالجة الردميات إلى محل خلاف بين المعنيين بإدارته، من محافظة بيروت ومجلسها البلدي الى وزارتي البيئة والأشغال. خلاف «وجودي» يجعل من الصعب التوافق على آلية محددة لعلاج مسألة بهذه البساطة والأهمية أيضاً. وهو خلاف يتعدى مسألة الصلاحيات، ويندرج في «إطار الضياع في التعاطي مع الملف، خصوصاً أنه حتى الآن لا تقرير نهائياً عما تتضمنه تلك الردميات من خطر»، على ما تقول المهندسة البيئية والمتخصصة في إدارة النفايات في الجامعة الأميركية، أماني معلوف. عندما وقع انفجار الرابع من آب، عملت فرق فوج الأشغال في الجيش على رفع الأنقاض وإزالة الركام في المرفأ. استحدث في منطقة الكرنتينا مكبّ مؤقت لنقل الردميات إليه، على أن يجري تحديد مكانٍ آخر لفرزها وتصنيفها ما بين زجاج وحديد وردم ونفايات وغيرها من المواد. إلا أن ذلك لم يجرِ وفق ما كان مخططاً بسبب الخلاف حول قطعة «الفرز» لأسباب بعضها تقني، وبعضها الآخر «ذو طابع سياسي»، على ما تقول مصادر في محافظة بيروت.
في الشق التقني، لم تنَل محافظة بيروت ومجلسها البلدي موافقة وزارة البيئة على أي من اقتراحات الأراضي التي تقدمت بها. فبعد أسبوع تقريباً على الانفجار، أرسلت المحافظة كتاباً حول قطعة أرض مقدمة من الرهبنة المارونية في منطقة الدامور، إلا أنها رُفضت «لعدم استيفاء الشروط»، بحسب جواب الوزارة. بعدها، أُرسل كتاب آخر بقطعة أرض في منطقة رومية تعود ملكيتها لرئيس بلدية سابق، إلا أنها رفضت هي الأخرى، كما رُفضت قطعة أرض ثالثة في مكب برج حمود ورابعة في بصاليم. أسباب الرفض المعلنة، بحسب وزارة البيئة، تتمثل بالخشية من أن «تصبح تلك المساحات مكبات عشوائية». لكن جوهر الخلاف، بحسب مصادر متابعة في الوزارة، هو أن البلدية تتصرف على قاعدة «تنظيم حفلة استثمارات، انطلاقاً من أن بعض الأراضي المقترحة دونها شكوك، ومنها مثلاً أن الأرض التي قدّمتها الرهبنة تقع على مقربة منها كسارة غير شرعية، وهناك شكوك مماثلة حول أرض روميه». وبحسب المصادر، فإن «خوف الوزارة هو من أن يكون ملف الردميات مناسبة لتربيح المتعهدين»، أضف إلى ذلك أن «الوزارة تنتظر تقرير الاتحاد الأوروبي لمعرفة ما الذي تحويه الردميات قبل نقلها إلى أي مكانٍ آخر». وهو ما تنتظره قيادة الجيش، أيضاً، قبل السماح بنقل الردميات. كما أن هناك جدلاً دائراً في وزارة البيئة لم يُحسم بعد حول «ما إذا كان الأولى فرز الردميات في مكانها لتحييد المواد الخطرة قبل نقلها إلى مكان آخر أو الفرز بعد الاتفاق على المكان المفترض».
خلاف بين وزارة الأشغال وشركة التأمين على معدّات المرفأ حول مزايدة لبيع الحديد الناتج عن الانفجار!


في مقابل ذلك، ثمة «يقين» لدى المحافظة بأن ما تقوم به وزارة البيئة «أمر مقصود، إذ ثمة نوايا لدى الوزارة لاستغلال ملف الردميات للحصول على تمويل». وما يعزّز ذلك «الموافقة الملغومة» على اقتراحين أُرسلا الى الوزارة أواخر الأسبوع الماضي، أحدهما يتعلق بمقلع في الناعمة والثاني بأرض تابعة لبلدية بيروت في منطقة الشويفات كانت مخصصة لإنشاء مسلخ. ويوضح محافظ بيروت، القاضي مروان عبود، أن الشروط التي وضعتها وزارة البيئة للموافقة «أقرب إلى التعجيز ولا نملك القدرة على تنفيذها». ففي ما يخص مقلع الناعمة، ربطت الموافقة بحلّ أزمته القانونية «بعدما تبين من وجود شكوى بالعقار من خلال مراسلة بين البيئة ووزارة الداخلية والنيابة العامة البيئية». أما في ما يخص أرض الشويفات، فدون الموافقة «دفتر شروط طويل عريض»، من «تحديد مسؤولية النقل والإشراف إلى الموقع المحدد ورشّ الطرقات التي تسلكها الشاحنات بالمياه والالتزام بخطّ سير وتوقيت محددين بالتنسيق مع بلدية الشويفات ووزارة الداخلية»، و«إعداد دراسة تقنية تحدد تفاصيل عمليات التخزين والفرز والمعالجة كافة (...)». ولهذا، سيعقد اجتماع نهائي بحضور جميع الأطراف من المحافظة إلى البلدية ووزارتي البيئة والداخلية والجمعيات الأهلية «لنعمل خطوة أخيرة قبل ما تنبج القصة»، على ما يقول عبود.
إلى ذلك، ثمة خلاف آخر يدور بين وزارة الأشغال وشركة التأمين التي تتعاقد معها الوزارة للتأمين على معدات إدارة المرفأ ومحتوياته. بحسب الصلاحيات والقانون، «تملك» وزارة الأشغال حق التصرف بالحديد الناتج من الردميات، بحيث يُفترض أن تنظم مزايدة تبيع بموجبها ما هو صالح للبيع، إلا أن ذلك لم يتم، على ما يقول المدير العام لإدارة واستثمار مرفأ بيروت بالتكليف، باسم القيسي. أما سبب التعطيل، فهو أن شركة التأمين تربط مسألة دفع التعويضات للوزارة بالحصول على الحديد لتبيعه هي. ولذلك، أحال القيسي الملف إلى اللجنة القانونية في الوزارة «للوقوف على رأيها قبل اتخاذ القرار المناسب» وإلى حين صدور هذا الرأي الذي لا توقيت محدداً له، «يسيب الحديد والردم على الطرقات بين الشمال والجنوب محملاً في الكميونات؟»، على ما يقول «شهود عيان» من المتابعين للملف في وزارة البيئة، استناداً «إلى صور وصلتنا عن تهريب الردميات».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا