ليست أزمة فيروس «كورونا» هي الأصعب. في الآونة الأخيرة، تعيش البلاد بأكملها في دوّامة أزمة «أعوص» تتنقّل عدواها من قطاع اقتصادي إلى آخر، وتكبر يوماً بعد آخر بما ينذر بالأسوأ، ولا تستثني من تداعياتها السلبية أياً من القطاعات. أخيراً، علت صرخة قطاع العقارات والبناء، وخصوصاً في الشقّ المتعلق بصيانة الأبنية القديمة، المهدّدة غالبيتها بالسقوط.اليوم، يواجه «قطاع» الأبنية القديمة كارثة حقيقية لجهة العجز عن تأمين مواد البناء الأساسية التي تُستخدم في الترميم والتدعيم، بسبب شحّ تلك المواد، وصعوبة فتح اعتمادات للاستيراد في ظل الإجراءات التعسفية للمصارف، وأيضاً بسبب الصعود الصاروخي لأسعارها في حال توافرها. وهي أزمة يقف إزاءها أصحاب العقارات عاجزين عن تأمين سلامة مبانيهم، لعدم قدرتهم على دفع بدلات صيانتها أضعافاً مضاعفة، إذ «أحتاج إلى أن أدّخر إيجار عام كامل لتسديد أكثر من أربعة ملايين ليرة ثمن قسطل مياه»، على ما يقول صاحب أحد العقارات.
هذه إحدى تبعات الأزمة المالية التي دفعت بالهيئة اللبنانية للعقارات إلى رفع المطالبة بـ«حماية القطاع العقاري، العام والخاص، وخصوصاً في ظل أزمة المصارف وقراراتها التعسفية في حق المودعين والمستثمرين وغيرهم وتوقفها عن التسهيلات الائتمانية، وارتفاع كلفة أعمال البناء ما أدى إلى تجميد المشاريع وتوقفها»، على ما جاء في بيان لرئيسة الهيئة المحامية أنديرا الزهيري قبل أيام. ولعلّ أكثر ما يثير الخوف في أزمة هذا القطاع هو «أوضاع الأبنية القديمة التي تأثرت مباشرة لناحية النقص في المواد، ما انعكس صعوبة في الترميم والتدعيم وما لذلك من تأثيرات على سلامة شاغليها وعلى السلامة العامة». من هنا، ناشدت الزهيري وزارتَي الداخلية والأشغال العامة والنقل «إيجاد آلية لحماية حقوق الناس وسلامتهم والتوصل إلى حلول تسهل الأعمال التي تدخل في الحفاظ على سلامة الأبنية وسلامة الناس عبر توفير مواد البناء والصيانة والترميم بأسعار مدروسة».
85 % من سكان لبنان يشغلون مبانيَ شُيدت قبل عقد الثمانينات


هي ليست أزمة طارئة، ولكن الأزمة المالية قد زادتها زخماً. وقد تكون هذه مناسبة لفتح ملف الأبنية القديمة التي تقف متفرّجة إزاءها. وقد تكفي الأرقام للتدليل على مدى خطورة ترك هذه الأبنية لمصيرها المحتوم: الانهيار. ففي تقريرها الأخير حول وضع الأبنية القديمة، وخصوصاً تلك الآيلة إلى السقوط، أحصت الهيئة اللبنانية للعقارات 16 ألفاً و260 مبنى مهدّداً بالسقوط، منها 10 آلاف و460 في بيروت وحدها، واحتلت مدينة طرابلس والشمال المرتبة الثانية بـ4 آلاف مبنى، فجبل لبنان بـ640 مبنى. وهي مبانٍ تخطّى معظمها «سنّ الأربعين عاماً». ومع الأخذ في الاعتبار أن «العمر الافتراضي للباطون هو خمسون عاماً، انطلاقاً من أن الباطون يخسر بمعدل 5% سنوياً من طاقته على التحمل»، كما تقول الزهيري، فإن مصير كثير من تلك المباني وساكنيها لا يبشّر بالخير، وخصوصاً أن «أكثر من 85% من السكان يسكنون في أبنية شُيّدت قبل عقد الثمانينات». وبحسب تقرير الهيئة فإن نحو 25% من المباني في مدينة بيروت و17% في الشمال و16% في الجنوب و15% في جبل لبنان شُيّدت قبل أكثر من 50 عاماً. أما المباني التي يبلغ عمرها بين 25 و49 عاماً، فتقع النسبة الكبرى منها أيضاً في بيروت بمعدل 52%.
رغم ذلك، «لا أحد يأخذ الأمر على محمل الجد»، تقول الزهيري، إن كان من جهة الدولة أو من جهة أصحاب الأملاك أو المستأجرين. ولهؤلاء ممارسات تكاد تسرّع في الانهيار. لكنها، مع ذلك، أولاً وآخراً مسؤولية الدولة في «تفعيل أجهزة الرقابة لتنظيم التفتيش على الأبنية على اختلافها، كما القوانين لتدارك أزمة الانهيار».