في البداية ستجد مغلّفاً عند طرف الباب في داخله رصاصة؛ في المرة الثانية ستجد صورة ابنك وقد وُضعت تحت مسّاحة زجاج السيارة؛ ثم ستجد رصاصة اخترقت سيارتك المركونة، أو قنبلة صوتية أُلقيت في فناء بيتك. بعدها، قد لا يعود صدرُ الفاعلين رحباً فينتهي الأمر بإرسال من يقتلك! هذه ليست مشاهد من أفلام المافيا، بل المصير المحتوم لكُثر من فلسطينيي الـ48 ممن اضطروا، بسبب الصعوبات الاقتصادية خصوصاً في ظل جائحة «كورونا»، للاقتراض من السوق السوداء التي تديرها منظّمات الجريمة، ولم يعودوا قادرين على التسديد في ظلّ إغلاق مصالحهم الاقتصادية!جرائم العنف في أوساط المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلّة عام 1948 ليست جديدة. كما أنّ بنيتَها التحتية وأسبابها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية معروفة. لكنْ فاقمها أخيراً تفشّي وباء كورونا، ما فرض إغلاقاً انعكس على اقتصاد المواطنين الفلسطينيين في أراضي الـ48، بشكل خاص.
ما علاقة ذلك كلّه بالجريمة؟ يأتي هنا دور السوق السوداء. فمنذ أكثر من شهر دخل فلسطينيو الـ 48 في حجر منزلي، وأغلقوا أبواب مصالحهم التجارية، ما أفقدهم مصادر رزقهم. وبالتالي تخلّفوا، أو سيتخلّفون قريباً، عن سداد ديون اقترضوها سابقاً أو خلال الأزمة. معظم هؤلاء لم يقترضوا بشكل قانونيّ بسبب فرض البنوك الإسرائيلية شروطاً صعبة عليهم، ما يضطرهم عادةً للجوء إلى «الحلول السريعة». وهذه تتمثل في نوعَين من القروض: «الرماديّة» و«السوداء». فيما النهاية لكلتا الحالتين إمّا قتل المتخلّف عن سداد دينه على أيدي الجماعات الإجراميّة، أو جرّه وأفراد عائلته إلى مستنقع من المشاكل المادية المتسلسلة يصعب الخروج منها.
يشرح رئيس لجنة مكافحة العنف في الكنيست النائب عن القائمة المشتركة، منصور عباس، لـ«الأخبار» أن «كثيرين من أصحاب المصالح التجارية من العرب تورّطوا في قروض من خارج منظومة البنوك، أي في قروض تقدّمها منظّمات الجريمة. إذ تقوم هذه الأخيرة ببيع وشراء شيكات (شراء الديون من محلات الصيرفة، أو شركات التسليف التي اقترض منها الناس قروضاً رمادية وتخلفوا عن سدادها)... كل هذا سببه الأساسي سياسات البنوك الإسرائيلية في البلدات العربية وحالة الشك الدائمة تجاه الزبون العربي». ولذلك «نتوقّع، وهو ما بدأ يظهر، انتعاش السوق السوداء، في ظلّ عدم تقديم علاج حكومي يكفي لسد حاجات المجتمع العربي خاصة».
كثيرون من أصحاب المصالح العرب تورّطوا في قروض من خارج المنظومة المصرفية


في الشكل العام، فاقمت أزمة «كورونا» الأزمة الاقتصادية القائمة أساساً في المجتمع العربي، فمنذ الشهر الماضي قلّصت إسرائيل عديد العمال في المرافق الحكومية بين 15 و20%، فيما قلّص القطاع الخاص عديد العمال بين 15 و30%. وأدى ذلك إلى ارتفاع نسبة البطالة في إسرائيل عامة إلى 26%، فيما وصلت في بعض المدن العربية الرئيسة إلى نحو 50%. نتيجة ذلك، بحسب الخبير في إدارة المخاطر المالية، ياسر عواد (طمرة، الجليل)، فإن «أوّل المتضرّرين من هذه السياسات كان العرب الذين يمتلكون أو يعملون في قطاعات خدماتيّة مثل المطاعم والمحلات التجارية والفنادق وقاعات الأفراح، وجميع المجالات المتعلقة بالحراسة والتنظيف والحسابات وإدارة الأموال وغيرها. هذه الأعمال عادةً ذات أجر منخفض، والنسبة الأكبر من العاملين فيها من العرب. لذلك، كان هؤلاء أوّل الخارجين من سوق العمل، وسيكونون آخر العائدين للاندماج فيها إذا ما انتهت أزمة كورونا في المدى المنظور».
وأوضح عواد لـ«الأخبار» أن «هناك توجيهات من البنك المركزي الإسرائيلي للبنوك كافة تتعلّق بالشيكات المردودة (مثل عدم احتسابها جنحة جنائية)، لكن المصارف غير مجبرة على تطبيق هذه التوجيهات. وكثير منها لن يقبل بإعطاء قروض لأصحاب المصالح التي كانت متأرجحة قبل أزمة كورونا وتفاقم وضعها الاقتصادي سوءاً في ظلّ الأزمة. وغالبية هؤلاء من المجتمع العربي. لذلك يضطرون في ظلّ غياب القروض البنكية للجوء إلى قروض السوق السوداء».
أضف إلى ذلك أن النظام المصرفي الإسرائيلي يتبع سياسات خانقة جداً تجاه العرب. و«هناك معطيات رسمية حول الفروقات في العمولات بين العرب واليهود تُظهر حجم التمييز ليس فقط في القروض الإسكانية والتعليم، بل أيضاً في القروض التجارية التي يحتاج لها رجال وسيدات الأعمال من العرب»، بحسب عضو لجنة مكافحة العنف والجريمة سماح سلايمة. وتضيف متسائلة: «إذا كانت القروض السوداء هي الطريق الأسهل قبل تفشّي كورونا وإغلاق المصالح والأعمال، فهل سيكون هناك طريق آخر في ظلّ هذا الوضع المستجد؟».
في ظلّ هذا الوضع المعقّد، يرى عباس أن «النتائج السلبية والخطيرة ستظهر خلال الأشهر القليلة المقبلة»؛ إذ أنه في ظلّ أزمة كورونا لم تتوقّف الجريمة، بل استمرّت عمليات الاغتيال على أيدي جماعات الإجرام، المموّل الرئيسي للسوق السوداء، وسجّلت عشرات الحالات من إطلاق النار خلال شهر واحد، نتج عنها سقوط ست ضحايا.