نعيش الآن في ظلّ أزمة عالمية عاصفة جرّاء تفشي وباء فيروس كورونا المستجد. تتوقف حياة الكثير منا (هذا أمر نتمنى أن يتوقف)، لكن الحياة تستمرّ... طبعاً، هي حياة ليست كسابقتها. تتخذ الحكومات والشعوب قرارات قد تغيّر وجه العالم لعقود قادمة. لهذا، على خطوات الساسة أن تتحلى بالدقة والسرعة في آن، ليس فقط لاحتواء الفيروس، بل للوصول إلى بدائل توائم المرحلة العالمية المقبلة. لن يؤدي كورونا إلى تغيير في طبيعة القطاع الصحي فقط في الكثير مِن بلدان العالم، بل سيمتدّ أثر هذا الوباء إلى القطاعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.للسيطرة على هذا الفيروس، تقوم الحكومات بتشريع قوانين بشكل دوري على مدار الساعة كانت لتستغرق سنوات لتمريرها، والاستعانة بتقنيات ووسائل كانت محظورة مِن قَبل للحد من حركة المواطنين، وللكشف عن الفيروس، والسيطرة على الفضاء الإلكتروني لتتحكّم بالشائعات. وهذه السياسات الطارئة لها أفضلية الآن، من عدم اتخاذها.
هذه الأوقات ليست عادية، لكنها ستمرّ. وقد نعتاد بعدها على أنظمة المراقبة الشاملة، والسيطرة على حركة المواطنين، والعزلة القومية، وانهيار فكرة التعاون بين الأمم، وانزلاق النظرية السياسية الليبرالية مِن الحياة الطبيعية إلى الحياة الجرداء. ستصبح قوانين «الطوارئ» الاستثنائية، الآن، هي القوانين الطبيعية التي ستشكل طبيعة الحياة القادمة حول العالم.

مراقبة الدم في العروق
عُرِف العصر الحديث بنوع جديد من السلطة يدعى «السياسة الحيوية» نظّر له الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه «تاريخ الجنسانية»، وميز بين السلطة الحيوية والسلطة التقليدية. فالسلطة التقليدية (في يد الملوك والأمراء ورجال الكنيسة...) كانت تكمن في سلب الحياة أو منحها من دون النظر إلى اعتبارات مثل سنّ أو جنس أو طبقة الإنسان الاجتماعية. أما السلطة الحيوية، فقد ربطت منح الحياة بالقدرة الإنتاجية، أي حياة الفرد تتوقف على قدرته في المساهمة في قطاعات الإنتاج المُختلفة.
صرح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون «ودّعوا أحبابكم»، وصارت عناوين الصُحف «الموت لكبار السن». «أطباء الولايات المتحدة الأميركية يضعون معايير للمصاب الأَولى برعاية الطبية» من دون أن يتمكن المواطنون الناخبون من تغيير هذه السياسات. لقد عُطل وجودهم، وجُرّدت حياة الناس من معانيها، وفقدوا فعاليتهم في الحياة. لقد كشف لنا فيروس كورونا عن عطب النموذج السياسي الليبرالي.

سلوكا ــــ لاتفيا

فُضح القطاع الصحي الغربي، وعاد إلى سيرته الأولى كجهاز للإحصاء والرعاية بالصحة العامة والصحة الإنجابية، لا للتعامل مع الحالات الطارئة وإنقاذ المرضى. فالسلطة الحيوية لم تهتم بالتحول من مفهوم الرعايا إلى مفهوم المواطنين، كما تدّعي الليبرالية، بل تحول الرعايا إلى سكان، فقد كان اهتمام الكيان الغربي الناشئ خلال وما بعد الحرب الباردة، بالعدد ومستوى المعيشة والارتقاء بالحالة الصحية ليس لخدمة مجتمعية، بل لخدمة هدف أهم هو «الإنتاج الاقتصادي». ومع مفهوم السكان، صار النمط السياسي القائم يرتكز إلى السلطة الانضباطية، كما يشير فوكو، أي تلك السلطة المنتشرة في كل قطاعات المجتمع، والتي تلامس أجساد السكان، وتبلغ ذروتها في المراقبة الذاتية التي يمارسها السكان على أنفسهم وأجسادهم في ملبسهم ومأكلهم ومنامهم، في مشيهم وتوقفهم، وجلوسهم وقيامهم، في الشارع والمصنع والمنزل.
انظر حولك، ستجد إرشادات، ممنوعات، توجيهات، لتحفيز الوعي الذاتي لدى الفرد لمراقبة سلوكه بنفسه، بل طريقة لبس مفروضة: قفازات طبية، وكمامات، يعمل الجميع من المنزل ويتواصلون عن بعد فقط، وتتصل المدارس والجامعات بأكملها بالإنترنت. يجب على جميع السكان الامتثال لمبادئ توجيهية معينة، من أجل السيطرة على وباء كورونا. تراقب الحكومات الناس، وتعاقب أولئك الذين يخالفون القواعد، اليوم، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت، وتصبح المراقبة ذاتية. يقوم السكان بمراقبة أنفسهم لتصبح تصرفاتهم عملاً سياسياً بحتاً، كما يقول فوكو.
خلال أزمة كورونا، لجأت حكومات عدة بالفعل لاستخدام وسائل مُراقبة جديدة، فالهواتف الذكية، وملايين الكاميرات صارت وسائل لفحص الأجساد والتأكد من درجة حرارتها، وتقديم تقرير طبي كامل عن الأفراد، والإبلاغ الإلكتروني عن أي إصابات مُحتملة. وفي حال تأكُّد الإصابة، تقدم التكنولوجيا ميزة تتبع أي شخص تواصل معه المصاب. وأخيراً، صارت هناك تطبيقات خاصة بالهواتف الذكية لتحذير الشخص عند اقترابه من أي بؤرة مصابة بالفيروس التاجي. تبدو أموراً إيجابية، لكن هذه وسائل تطور لتتبع الإرهابيين أو المعارضين السياسيين أو أفراد المقاومة حول العالم وليس مصابي كورونا المستجد.
استغل الكيان الصهيوني الأزمة العالمية ونشر وسائل تكنولوجية خاصة بالتتبع والرصد وجمع البيانات، عادة ما تستخدم ضد الفلسطينيين في الأعمال العسكرية وهذا تحت ذريعة مُحاربة فيروس كورونا. وقد مُرر قرار نشر واستخدام هذه التكنولوجيات لصالح «وكالة الأمن الإسرائيلية» في ظلّ قانون «الطوارئ» الذي فرضه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعدما رفض البرلمان إعطاء موافقة على استخدام مثل هذه الوسائل.
لم تعد السياسة تتمثل في المدينة، بل في ساحات الحجر الصحي، فقد فتح فيروس كورونا الباب أمام دولة المراقبة. قد يكون الكثير من الشعوب اعتاد على فعل المراقبة، لكن تطبيع وجود إلكترونيات مُعقدة لتتبع خطوات الأفراد ومعالجة سلوكياتهم، يعدّ فصلاً مهماً في تاريخ توغّل السلطة الحيوية، وتطوير مفهوم الحياة الجرداء، فالوجود الإنساني صار كله مصار تحليل لآليات التتبع والمراقبة.
لم تعد الحكومات الآن تريد معرفة ما تتابعه عبر شبكات الإنترنت ومواقع التواصل، لكنها تريد معرفة درجة حرارتك، ولون بشرتك، وقد يتطور الأمر لتحديد ميولك الجنسية مستقبلاً. إن المراقبة تنتقل من تخيل فوكو في كتابه «المراقبة والعقاب» عن سجن البانوبتيكون لتتبع الأجساد، إلى تتبع ما داخل الأجساد.

طوارئ لا تنقطع
الطوارئ المتّبعة الآن حول العالم للسيطرة على تفشي وباء كورونا، لن تنتهي بدون ترك آثار طويلة الأمد على الطبيعة السياسية والاجتماعية، والمراقبة هي أول آثارها التي قد تبقى، بينما الأثر الثاني يكمن في تعريف أي حياة نحن على موعد معها.
اشتغل الفيلسوف الإيطالي المُعاصر جورجيو غامبين (1942) على توضيح الفرق بين مفهومَي الحياة الطبيعية والحياة الجرداء. النظرية السياسية الليبرالية السائدة عالمياً خلطت بين التجريد والطبيعة، وجعلت من الحياة الجرداء حالة الإنسان الأول الطبيعية قبل ظهور الدولة. وهذا ما ينفيه أغامبين، فالحياة الجرداء ما هي إلا قدرة الدولة المُحتكرة لوسائل العنف على فرض سلطتها السيادية خلال أي أزمة مِن أجل تجريد الحياة مِن المعنى ومِن القيمة.
السلطة الحيوية لا تهتم بالتحول من مفهوم الرعايا إلى مفهوم المواطنين كما تدّعي الليبرالية


والأنظمة الليبرالية قد أكدت دوماً أنها تمارس السيادة داخل منظومة القوانين والقواعد، نافيةً بشدة أنها تتعداها. وقد درس كارل شميدت منذ عام 1922 حالة الطوارئ، وحسم المسألة في كتابه «الثيولوجيا السياسية» بأنّ «صاحب السيادة هو ذلك الذي يقرر الطارئ». يعرّف شميت حالة الطوارئ بأنها «حالة أزمة سياسية واقتصادية تهدد الدولة ويستدعي حلها تعليق العمل بالقانون (إبطاله) والقواعد العامة». وعلى عكس التنظير الليبرالي، تجنّب شميدت أن ينسب محتوى ثابتاً لمفهوم السيادة (الاعتراف الداخلي والخارجي)، فهذا في نظره يهدف إلى التلاعب بالشعب، وجعل مِن قانون الطوارئ صانعاً لمفهوم سيادة الدولة وجوهرها.
عرّف شميدت جوهر سيادة الدولة بشكل قانوني دقيق كونها ليست احتكار العنف أو الحكم، بل احتكار القرار. وبعد هذا التعريف، طوّر والتر بنجامين مفهوم السيادة في مقاله «أطروحات حول فلسفة التاريخ» (1940) إنّ «حالة الطوارئ أصبحت في الواقع قانوناً».
وعبر تعريفي كلٍّ مِن شميت وبنجامين، أقرّ أغامبين أنّ قانون الطوارئ لا هو وضع قانوني ولا هو تقرير واقع، بل هو قرار سيادي ينشئ العلاقة بين القانون والواقع في المقام الأول. وبالتالي، فإن صاحب السيادة باستحواذه على الحق في إعلان حالة الطوارئ، يطمس الخط الفاصل بين الواقع والقاعدة القانونية، بين الحدث والقانون، بين القاعدة والاستثناء. وبذلك، يصبح القانون قائماً لكن بدون دلالة، وتصبح حالة الطوارئ قاعدة دائمة تخضع للتقدير اللحظي لصاحب السيادة.

سيتغير العالم بدون شك
خلال أزمة فيروس كورونا، وما بعدها، سيكون هناك متسع لفهم ضلالات النظام الكوني الدموي المعاصر، كما يشير له أغامبين، والتفكير في ضرورة إعادة النظر في القوانين والأسس الفكرية التي قامت عليها بنى هذا العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فقدسية الحياة الإنسانية لم تعد مِن أولويات النظم الحاكمة الحالية، ولم تعد الجماهير في مواجهة نظم ضبط سلطوية تقليدية، بل نظم صارت تراقب ما يجري في عروق الإنسان.

يقوم السكان بمراقبة أنفسهم لتصبح تصرفاتهم عملاً سياسياً بحتاً، كما يقول فوكو


سيتغير العالم بدون شك، لكن في ظل قوانين الطوارئ وحركة المدرعات الثقيلة في الطرقات، وزيادة النزعات اليمينية المتطرفة، وسياسات أكثر تقييداً للحريات وحداً لحركة المواطنين. نحن على موعد مع عصر لا تُفهم فيه السياسة من قاعات الجامعات أو البرلمانات، بل من المستشفيات، ومراكز الحجر الصحي.

مراجع:
https://www.goodreads.com/book/show/15754663-1?from_search=true&from_srp=true&qid=RHqXbcSDes&rank=28

https://www.ft.com/content/19d90308-6858-11ea-a3c9-1fe6fedcca75

https://www.goodreads.com/book/show/32508101

https://eipss-eg.org/ترجمات-الفكر-السياسي-عند-كارل-شميدت/

https://khaledfahmy.org/ar/2018/06/26/في-كيفية-تحويل-المواطنين-إلي-خلعاء-بلا/

https://khaledfahmy.org/ar/2018/06/26/في-كيفية-تحويل-المواطنين-إلي-خلعاء-بلا/