تصريح الرئيس نبيه بري قبل أيام، بإصرار وبشيء من الانفعال، بأنه «حارس الجمهورية» وأنه سيضع كل إمكانياته في سبيل «تصويب المسار»، ذو صلة وثيقة بالصراع المستمر على النفوذ في السلطة والإدارة. وهو، حتماً، ينطوي على انتقاد ضمني لموقف الرئاسة الأولى وفريقها، بشكل خاص. لم تنفع جائحة (التفشي الكارثي) فيروس «كورونا» في فرض الأولوية الضرورية على أطراف منظومة المحاصصة. ما زال التوتر بين كبار أقطابها، سيد الموقف، خصوصاً منذ اندلاع مسلسل الفساد والفضائح والإفلاس، في أواخر الصيف الماضي، حتى موسم كارثة «كورونا» المتمادي، منذ شباط الماضي.خلافاً لما أملاه «كورونا» من الحظر والحجر الشاملين، دفعت الأزمة الاقتصادية بمئات آلاف اللبنانيين، إلى الشارع، في ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ بلدهم. شكلت استقالة آخر نسخة من حكومات «الوحدة الوطنية» برئاسة سعد الحريري، عنواناً لمسار ضغط شعبي من أجل التغيير، معزّز بنزعة طبيعية (وإن غير معهودة في لبنان) نحو المساءلة والمحاسبة. الشتائم واللعنات، كانت هي التعبير المباشر عن الغضب والنقمة، في غياب البرامج الجامعة والأطر الموحّدة والقيادة الموجهة... أنجبت الانتفاضة الشعبية مولوداً مخبرياً هو حكومة الرئيس حسان دياب. إنّها بالكاد إرهاصة تغيير، وليست إطلاقاً تعبيراً عن تغيير ناجز وناضح. قوى المحاصصة اضطرت للانكفاء، لكن عن الواجهة فقط: ملائكتها حاضرة في كل المواقع والوزارات والوزراء، فضلاً عن استمرار إمساكهم بالدولة «العميقة» جميعاً، على مستوى الإدارة والاقتصاد والأمن والقضاء والمؤسسة التشريعية والإعلام... خسر أقطاب المحاصصة جولة، لكنّهم لم يخسروا الحرب. الحرب استمرت. وهي تستمر بضراوة لم ينفع معها كلّ ما يمثّله تهديد وباء «كورونا» من مخاطر شاملة قد تهدد حياة أعدادٍ لا يمكن أن يتصورها أحد حالياً! هذا طبعاً، فضلاً عن تهديد أزمة الإفلاس الشامل التي فاقمها الوباء، والتي لم يجِد فيها حيتان وأنذال المصارف وحماتهم سوى مناسبة إضافية للانقضاض على مدّخرات كل الفئات الصغيرة والمتوسطة خصوصاً!
انفعال الرئيس بري هو، في الواقع، رأس جبل الجليد في مخاض يدور شرساً على كل المستويات بهدفٍ ليس خافياً: استعادة كامل القرار على كلّ مواقع السلطة، وفق الصيغة التحاصصية إياها: أي تلك التي منعت قيام دولة موحّدة: دولة قانون ومؤسسات، لمصلحة دويلات ومزارع ومحميات فئوية مافيوية، بقناع طائفي ومذهبي للتمويه والضحك على الذقون!
ينقسم أقطاب المحاصصة إلى فريقين: الأول، يحاول احتواء النقمة الشعبية ونتائجها في حكومة الوكلاء والموظفين، عبر تطويعها وإغراقها في المسار التحاصصي السابق نفسه، الذي هو فيه فعَّال ومتفوق. هذا ينطبق على فريق رئيس الجمهورية ورئيس تياره. فهذان يريدان أيضاً استمرار إبعاد شركاء سابقين ومنع عودتهم إلى السلطة. المقصود بالدرجة الأولى، الرئيس سعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» ورئيس «القوات اللبنانية».
أما التيار الثاني، فهو فريق الرئيس نبيه بري الذي يعمل في السر والعلانية، لتقصير أجَل حكومة حسّان دياب إلى الحد الأقصى. الهدف، طبعاً، هو العودة المباشرة إلى السلطة. وهو أيضاً إزالة آثار «العدوان الشعبي» على أقطاب المحاصصة. وهو، بالتالي، إعادة فرقاء حكومة الرئيس سعد الحريري أنفسهم، وفي المقدمة منهم الحريري، إلى رئاسة الحكومة العتيدة. ربما، هذا ما قصده الرئيس نبيه بري في كلامه عن «تصويب» المسار والأمور، باستخدام كل إمكانياته وسلطاته وتأثيره... هو رَمَزَ إلى ذلك بتقديم نفسه «حارساً للجمهورية». قد يبدو كلامه، في ظاهِرهِ، تحذيراً من تهديدات الكارثتين الصحية والاقتصادية. لكن الأصح أن الرئيس بري بات يخلط، هو أيضاً ما بين الجمهورية ونظامها السياسي الذي استقر على محاصصة فاجرة ومدمرة، أدت إلى ما يعانيه البلد وناسه حالياً من خطر الجوع والخراب على يد تحالف مافيا السلطة والمصارف... الخلط بين النظام والكيان هو أصلاً صناعة أنتجتها ورسَّختها قوى الأرجحية والغلبة والامتيازات الطائفية ما قبل الحرب الأهلية و«اتفاق الطائف». لطالما ردّد هؤلاء أنّ لبنان يكون، بنظامه التحاصصي ذي الغلبة الطائفية، أو لا يكون. هو بالضرورة ينبغي أن يكون مستقوياً بالغرب وتابعاً له. لبنان ذاك، حسب أحد منظّري «الصيغة الفريدة»، الراحل إدوار حنين، «إذا استقلّ اهتز وإذا استُتبع اعتز»!
في مجرى المتغيرات، وبعد الحرب الأهلية المديدة (1975 ـــــ 1990) وتسوية «الطائف»، تغيَّرت توازنات وعلاقات داخلية وخارجية. صمدت الصيغة الطائفية، إطاراً لممارسة سلطة القرار، لكن اختلفت التوازنات. بين حنين إلى السلطة السابقة ما قبل الحرب (التيار العوني) والتمسك بالتوازنات التي نشأت بعدها (فريق بري، الحريري، جنبلاط، جعجع)، يستمر خلاف ضار على الصلاحيات والنفوذ. لكن يستمر أيضاً، وبشكل أكثر إصراراً، التمسُّك بالصيغة نفسها!
هنا وهناك، إذن، إمعان في ربط الكيان بالنظام، والجمهورية بالتحاصص الطائفي، والعلاقات الداخلية والخارجية بالتنافس والانقسام والتبعية. ليس بالصدفة أن يكون التيار الشعبي المنتفض قد تنبّه لأضرار منظومة المحاصصة، وللعلاقة ما بين الطائفية والفساد ومنع المحاسبة. هذا الربط، تكراراً، وضعَ الإصبع على الجرح، لكنّه لم يرتقِ بعد إلى مستوى بلورة وتبنّي بديل ديموقراطي شامل.
ثمة فريق ثالث مشارك في السلطة من على ضفافها. تذهب اهتمامات هذا الطرف (حزب الله) الأساسية نحو أهداف تتصل بالصراع مع مشاريع الهيمنة على المنطقة من قِبل المستعمرين والصهاينة. بعد الإفلاس والانهيار الاقتصادي والمالي، بات في موقع غير مريح. هو، يواصل السعي لاحتواء الأزمات، متهيّباً الانخراط في صراع قد يؤدي إلى حلّها، ولو جزئياً. تضيق أمامه فرص المناورة والتأجيل. مقاربة أخرى باتت مطلوبة من قبله، بإلحاح، نظراً إلى تداخل المعطيات وانعكاساتها، بين الداخل والخارج، وبين السياسي والاقتصادي، وبين المحلي والإقليمي. قضية العميل عامر الفاخوري كانت نموذجاً، وهي ينبغي أن تكون درساً لا يمكن تجاهله وعدم التحسب لمخاطره.
أما فريق الحكومة الحالية، فلا يزال يراوح في التأجيل والعجز وضغط الآليات السابقة. سيجعله ذلك مجرد لاعب عابر في الوقت الضائع. هل تستطيع الحكومة أن تتجاوز ذلك، وترتقي إلى مستوى اللاعب الفاعل والضروري والقادر على التعبير عن بعض مطالب الانتفاضة والناس؟! هذا ما ينبغي أن تسعى إليه رغم الموانع والعقبات الخاصة والعامة.
مرةً جديدة يتكرّر السؤال: أين دور قوى التغيير؟ متى تقتنع بأن انضواءها في مشروع جبهوي هو مدخلها الإجباري لممارسة دور وطني فاعل لمصلحتها ولمصلحة الوطن؟!

* كاتب وسياسي لبناني