عندما سئل العالم والباحث جوناس سولك، مخترع أول تجربة ناجحة للقاح شلل الأطفال، عام 1955، عمن يمتلك براءة إختراعi، كان جوابه: «ليس هناك شيء إسمه براءة إختراع. هل يملك أحد براءة إختراع للشمس؟».ولكن، بعيداً عن الرومانسية وإضفاء المثالية على عالم الطب والأبحاث العلمية، المؤكّد أنّ عملية إنتاج الأدوية واللقاحات تغيّرت كثيراً منذ عام 1955. نظرة خاطفة إلى الأرقام التي تظهر ما تجنيه شركات الأدوية المتعددة الجنسية، تجعلنا ندرك بأنّ صناعة الأدوية باتت تضاهي صناعة السيارات واستخراج النفط لجهة تراكم الأرباح. ويكفي أن نرى كيف ضاعفت أهم المختبرات في العالم أرقام مبيعاتها وأسهمها بين 1999 و2017 إلى نحو 400 مليار يورو.
إذاً، ما الجديد في محاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب رشوة مختبر ألماني لجذبه إلى الأراضي الأميركية لتصنيع لقاح لـ«كوفيد- 19» (نفى المختبر الألماني CureVac لاحقاً ما أوردته صحيفة «دي ولت» في هذا الشأن، لكنه نفي إعلامي وحسب)؟
الجديد، فقط، هو التصريح المفاجىء للمتحدث باسم الحزب الديمقراطي الإشتراكي الألماني كارل لوترباك بـ«أننا يجب أن نفعل كل ما يمكن لمنع بيع اللقاح للولايات المتحدة. فالرأسمالية لها حدودها عندما يتعلق الأمر بالصحة العامة». ولا ندري، فعلياً، مدى جدية الإدراك بأن «للرأسمالية حدوداً»، خصوصاً في ما يتعلق بالصحة العامة، بعدما تلطّخت العقود الماضية بفضائح أدوية ولقاحات طُرحت في الأسواق وذهب ضحيتها مئات الآلاف في سبيل الرأسمالية التي ندرك الآن، فقط، أن «لها حدوداً».
اليوم، تتسابق شركات الأدوية لإيجاد علاج لفيروس «كورونا». ويتفاقم الجدل حول فعالية دواء «هيدروكسيكلوروكين» hydroxychloroquine (مشتق من الكلوروكين الذي يستعمل في علاج الملاريا، ويستخدم حالياً أيضاً لعلاج آلام المفاصل وأمراض متصلة بالجهاز المناعي) في علاج المصابين. ويتقاذف الأطباء، والمسؤولون الحكوميون، الإتهامات حول السماح باستعمال هذا الدواء من دون إختبار تأثيراته الجانبية (سجلت عند البعض مضاعفات جانبية على صحة القلب والكبد)، وقبل إجراء دراسات أشمل وأوسع على عدد كبير من المرضى للتأكد من فعاليته، خصوصاً أن التجارب الثلاث التي أجريت حتى اليوم (واحدة في الصين وإثنتان في مرسيليا الفرنسية) تعرضتا للنقد من حيث البروتوكول التجريبي المستعمل وعدد المرضى، ولغياب أي تفسير علمي لفعالية دواء ضد الملاريا في مكافحة الفيروسات!
انقسمت الآراء وخرج النقاش عن نطاقه العلمي ليصبح سياسياً - شعبوياً - إعلامياً: هناك من يدافع بشراسة عن الدواء ويتهم الحكومات بالتحالف مع شركات الأدوية ضمن ما يسمى بـ«لوبي Big Pharma» لقطع الطريق على «هيدروكسيكلوروكين» كونه متدني السعر ولا يدرّ ارباحاً كثيرة. وفي المقابل، هناك من يطالب بالتروي في استعماله وينتقد البروفسور ديدييه راوول (باحث مايكروبيولوجي في مستشفى في مرسيليا وصاحب الدراستين اللتين تثبتان فعالية الدواء) ويتهمه بالسعي وراء الشهرة. ويردّ هذا الفريق على الإتهامات بالتحالف مع شركات الأدوية بالزعم أنّ اللقاحات لا تدر أرباحاً كبيرة على الشركات كونها تشكل فقط 3.3% من مبيعاتها (علماً أن سوق اللقاحات شهد نمواً بنسبة 25% بين 2011 و2017).
أكثر ما يهز الثقة بالطب هو تشابك المصالح بين الأطباء ومراكز الأبحاث وشركات الأدوية


ما من شك في أن اللقاحات ضرورية، وأن عدداً كبيراً منها أنقذ حياة الملايين وقضى على كثير من الأوبئة التي فتكت سابقاً بالبشرية. والنقاش لا يجب ان يكون مع اللقاح أو ضده خارج حلقة الحوار العلمي الموضوعي. إلا أن أكثر ما يهز ثقة المواطنين بالطب، اليوم، هو تشابك المصالح بين الأطباء ومراكز الأبحاث وشركات الأدوية. وقد أظهرت دراسة أجرتها المجلة العلمية British Medical Journal، عام 2013، أن 90 في المئة من أطباء الصحة العامة في فرنسا، مثلاً، يتلقّون «هدايا» من شركات الأدوية مكافأة لهم لإصدارهم وصفات طبية تروّج لأدوية معينة (هل من دراسات جدية تبيّن ما يحصل في لبنان مثلا في هذه القضايا؟).
في كتابه «علاجات مميتة وجرائم منظمة، كيف تقوم شركات الأدوية بإفساد قطاع الخدمات الصحية» (الصادر عام 2015)، يكشف البروفسور الدنماركي بيتر غوتش تواطؤ عدد كبير من الأطباء المرموقين ممن يوصفون بـ«قادة الرأي» (opinion leaders) مع شركات الأدوية للترويج لعلاجات محددة، وأن بعض الأدوية المسوّق لها يتسبب بوفاة مئات الآلاف في العالم سنوياً! وهناك فضائح عدّة انفجرت في العقود الماضية، يصعب تفصيلها هنا. لكن يمكن، في هذا السياق، الاشارة الى المضاعفات الجانبية لدواء vioxx المضاد للالتهابات الذي صنّعته شركة Merck، وتسبّب بوفاة 40 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها بين 2000 و2004 (جنت الشركة سنوياً نحو 2،5 مليار دولار من وراء هذا الدواء). وعندما انتشرت موجة إنفلونزا الخنازير H1N1، عام 2009، صنّعت شركة GSK لقاحاً بسرعة قياسية وطرحته في السوق تحت إسم Pandemrix، ورُوّج له في وسائل الإعلام. فرنسا وحدها، على سبيل المثال، اشترت نحو 950 مليون جرعة من اللقاح بكلفة ناهزت ملياري يورو، إضافة إلى كمية هائلة من الكمامات من نوع FFP2 (أما لماذا نفدت الكمامات في الأزمة الحالية، فهذه قصة أخرى). تبيّن يومها أن الأنفلونزا ليست بالخطورة المتوقعة، ولم يُستعمل من اللقاح أكثر من 6 ملايين جرعة، فيما ذهب الفائض إلى المهملات بعد إنتهاء صلاحيته. إلا أن الأخطر هو ما كُشف لاحقاً عن عدم اختبار التأثيرات الجانبية للقاح. وكشفت British Medical Journal في أيلول 2018 أن الشركة المصنعة كتمت تقارير مسبقة تؤكد احتمال إصابة من يأخذ اللقاح بمرض الخدار (nacrolapsy). كما لا تزال فضيحة اللقاح ضد فيروسhepatite B في فرنسا ماثلة في ذاكرة الكثيرين. إذ تبيّن أن اللقاح، الذي روجت له وزارة الصحة عام 1994 وسخّرت حملة ضخمة لاجبار الناس على تلقيه، يسبب مرض التصلب اللويحي multiple sclerosis الذي يتلف الجهاز العصبي.وقد أحصي أكثر من ثلاثة آلاف ضحية عانوا من أمراض عصبية عدة مرتبطة مباشرة باللقاح، ورفعت دعاوى عدة بين عامي 1998 و2007، وجُرّمت بعض شركات الأدوية في هذه القضية.
في أزمة «كورونا» المستجدّ، تضغط بعض شركات الأدوية لاختصار «مراحل بروتوكولية» قد تؤخر طرح لقاحات بسرعة في السوق. وفاة الآلاف في العالم والهلع الكوني من هذا الفيروس كلها أسلحة «مفيدة» لتغذية الخوف والتحكم بالرأي العام لتسويق وصفات ولقاحات قد تظهر خطورتها بعد عشرات السنين. «ثلاثية الأوبئة»، أي تحالف السلطات المالية مع السلطات السياسية المسؤولة عن السياسات الصحية ومع وسائل الإعلام، لا تبشرنا بخير لجهة توقف حدود «الرأسمالية» عند أبواب الصحة العامة.

*أستاذة إيكولوجيا
في كلية العلوم ــ الجامعة اللبنانية.