يتجاوز الاهتمام الاسرائيلي بانتشار فيروس «كورونا» الجانب الطبي والحياتي، إلى كونه مُحدِّداً أساسياً لواقع اقتصادي، محلي وإقليمي ودولي، ستكون له مفاعيله المباشرة على الأمن القومي. ففي منطق الاستخبارات، أتى هذا المستجدّ من خارج نطاق التقديرات والسيناريوهات التي وضعتها الأجهزة الاستخبارية كافة في إسرائيل وخارجها للسنة الجارية، والتي كانت مشحونة باحتمالات التصعيد المتدحرج على خلفية التطورات الإقليمية. إلا أن انتشار «كورونا» عالمياً ألقى بظلاله على المعادلات الإقليمية وعلى التقديرات الاستخبارية، وفتح مروحة السيناريوهات بين السيّئ والأشد خطورة.تتعدّد الأبواب التي يؤثر من خلالها انتشار «كورونا» على الأمن القومي الإسرائيلي. والمحدِّد الأكثر حضوراً لدى جهات التقدير والقرار، يتمثل بمدى انتشاره وتأثيره على حياة الأفراد، إضافة إلى العامل الاقتصادي الذي يُتوقع أن تتوالى تداعياته كلما طال أمد الأزمة، وصولاً إلى خيارات العدو ومخططاته لبناء القوة والمناعة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.
وقد بات واضحاً في تل ابيب أن الاقتصاد العالمي والإسرائيلي سيدخل في ركود عميق، ما سيؤدي إلى تراجع حادّ في الناتج المحلي والعالمي. نتيجة ذلك، لم يعد الحديث عن الآثار الكارثية لانتشار الفيروس على الاقتصاد الإسرائيلي مجرد تقديرات مُرجحة، بل حقائق يسلم بها الخبراء الاقتصاديون، وإن كانت تقديراتهم تتفاوت بحسب سوء السيناريو الذي ينطلقون منه لجهة انتشار كورونا والمدى الزمني الذي سيستغرقه.
على المستوى الداخلي، وبفعل التضارب في تحديد الأولويات، تشهد الساحة الإسرائيلية تجاذباً بين منطقين: أحدهما يدعو إلى إغلاق فعلي للمرافق الاقتصادية والإعلان عن حال طوارئ، انسجاماً مع توصية وزارة الصحة، بهدف الحدّ من اتساع نطاق انتشار الفيروس. وفي المقابل، تعارض جهات اقتصادية وفي وزارة المالية هذا الإجراء، وتدعو إلى فرض إغلاق على مناطق مُحدَّدة موبوءة، وتدعو إلى درس إمكانية اتباع النموذج البريطاني باكتساب «المناعة الجماعية» عبر «السماح» للوباء بالانتشار مع الاكتفاء بحماية المسنّين والمرضى المزمنين. ويُبرِّر هؤلاء موقفهم بأن اتباع توصيات وزارة الصحة تترتب عليه تكاليف اقتصادية هائلة، ولن يتمكن الاقتصاد من تكبّد تكاليف الإغلاق إلا لشهر أو شهر ونصف شهر، وسيؤدي ذلك إلى تراجع الناتج المحلي إلى أكثر من 4%، وارتفاع نسبة الدين من الناتج إلى حوالى 70%. وكلما طالت المدة ارتفعت نسبة الدين. وفي حال لم يتم القضاء على الوباء خلال هذه الفترة، لن تتمكن الدولة من مواجهة الوباء سوى باللجوء إلى وسائل أخرى، لأنها لن تكون قادرة على تحمل الكلفة الاقتصادية البالغة.
التهديد الاقتصادي يُفاقم التحديات الأمنية أمام جيش العدوّ وأجهزته الأمنية


وكنتيجة فورية، نبّهت مؤسسة التأمين الوطني في إسرائيل إلى أن ايقاف قطاعات كاملة من العمل، سيؤدي إلى إخراج مئات الآلاف من دائرة العمل، وسيجعل 400 ألف شخص عاطلين عن العمل بحلول نهاية الشهر الجاري، ما سيكلف الدولة 2,5 مليار شيكل في شهر نيسان. ونتيجة لهذا الواقع الذي يُتوقع أن يزداد تدهوراً مع مرور الوقت، بات مباحاً الاقتراب مما كان محذوراً الاقتراب منه، أي زيادة نسبة العجز. وبهدف تحريك عجلة الاقتصاد، بادر البنك المركزي الإسرائيلي إلى قرار دراماتيكي لم يسبق أن أقدم عليه في تاريخه، وهو ضخّ أموال توفر سيولة بالعملة الأجنبية، بقيمة 1,5 مليار دولار.
وتشير مصادر اقتصادية في تل أبيب إلى أن تعطيل المرافق الاقتصادية لعدة أشهر، من دون نهاية معروفة مسبقاً، سيقود إلى سيناريوهات حرب يوم الغفران (1973)، عندما تراجع النمو خلال سنتين من 12% سنوياً إلى 1.5%، وستنتج عن ذلك خسارة هائلة سيكون من الصعب على الاقتصاد التعافي منها.
هذا التهديد الاقتصادي يُفاقم التحديات الأمنية أمام جيش العدو وأجهزته الأمنية. وما يضفي مزيداً من الخصوصية على انتشار «كورونا»، بالنسبة إلى إسرائيل، أنه أتى في ظل أزمة سياسية مفتوحة، وتحذير خبراء ومؤسسات من تراجع نسب النمو (بسبب انتشار الوباء) والتوجّس من أثر ذلك على العجز السنوي، إضافة إلى تعدد التهديدات الأمنية. وقد بات الخبراء يجزمون بأنه في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، فإن أولوية الصحة والاقتصاد ستجعل من الصعب جداً تنفيذ «خطة الجيش المتعددة السنوات لبناء القوة» (زخم).
إلى ذلك، فإن من بين التحديات أمام جيش العدو في الوضع الحالي، كما أشار مؤتمر خاص بتداعيات كورونا عقده معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، المحافظة على الاستعداد وعلى صحة الجنود، بشكل يسمح بتوفير رد على التحديات الأمنية، وبالمساهمة في مساعدة المنظومة المدنية التي ستزداد حاجتها كلما استمرت الأزمة وتفاقمت.
ويُجمع الخبراء على أن خطة «زخم» باتت تواجه عراقيل خطيرة. فقبل أزمة «كورونا»، تأخر انطلاق تنفيذ الخطة بسبب ثلاث جولات انتخابية، وبسبب العجز الكبير (20 مليار شيكل) في ميزانية الدولة. ومع الترجيحات بدخول الاقتصاد مرحلة الركود، سيجد الجيش صعوبة كبيرة في المنافسة على الموارد التي سيحتاج إليها الاقتصاد والصحة. والخطورة بالنسبة إلى إسرائيل، أنه من دون هذه الخطة، ستتعمّق الهوّة النوعية بينها وبين أعدائها في المنطقة. وقد يدفع ذلك الجيش والأجهزة الامنية، إلى إجراء تغيير مفاهيمي لم تكتمل معالمه حتى الآن، ولم تتضح آفاقه، لكن الواضح أنه سيكون خطيراً في نتائجه وتداعياته.