منذ خمسة أشهر، يبيت محمد عبد الكريم إبراهيم عند رصيف «الأمم». انتقل إلى هناك، نهائياً، بعدما صار بلا مأوى وبلا العمل الذي أُجبر على تركه منذ عامين، بسبب إصابته بداء السكري والفشل الكلوي. لم يجد خياراً غير «الإقامة» عند باب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، علّها تعيد فتح ملف لجوئه الذي صار عمره 11 عاماً. لم يحمل معه من آخر المساكن التي آوته سوى حقيبة ظهر. حقيبة مدرسية يوضّب فيها أغراضه الضئيلة، ولا شيء آخر.يقيم ابراهيم تحت الشجرة. في النهار، يتنقل ما بين «محل إقامته» على الرصيف المقابل لمكتب المفوضية، وبين بابها علّه يحظى بمقابلة أحدهم. إلا أنه لم يحظ بتلك المقابلة، وقد عرف لاحقاً أن الموظفين «الكبار صاروا يدخلون من الباب الخلفي للمكتب». مرة واحدة، وبعد الإلحاح على مقابلة أحدهم، خرج معاون رئيس الأمن، ومن دون أن يسمع ما يطلبه اللاجئون، قال لهم: «لا حل»، ثم دخل. من يومها، لم يخرج أحد لمقابلة المعتصمين منذ خمسة أشهر.
ابراهيم الذي ينادونه هناك «بابا»، هو اليوم «نكرة»، يقول. فهو ليس أباً حقيقياً بعدما فقد أبوته منذ انقطاع اللقاء مع أولاده قبل 11 عاماً، ولا هو لاجئ بسبب عدم مبالاة المفوضية في التعاطي مع ملفات اللاجئين السودانيين، ولا هو مواطن سوداني بعدما فقد هذه الصفة بسبب هروبه من دارفور من «النظام» وعدم تجديد جواز سفره من قبل السفارة السودانية في لبنان، «لأنني أحمل بطاقة الأمم، ما يعني بالنسبة إليهم أنني معارض».
معاناة إبراهيم جرجرت الكثيرين من السودانيين الذين يشبهونه قبل خمسة أشهر. بدأوا بـ«كم شخص»، ثم كبر العدد شيئاً فشيئاً حتى وصلوا إلى 34. لكن، قبل أيامٍ قليلة، لم يعد «المنظر يعجب الأمم، فاستدعوا الشرطة ليلاً، ففضّت اعتصامنا بالقوة واعتقلت منا 10 أشخاص، بينهم امرأة»، يقول إبراهيم. وأول من أمس، حضرت القوى الأمنية «بناءً على مكالمة من الأمم»، واعتقلت امرأة أخرى. هكذا، تقلّص العدد إلى 22 شخصاً، في مقابل 11 آخرين نقلوا إلى سجن المديرية العامة للأمن العام. هناك، يواجه المعتقلون تهمة أخرى: إقامة غير شرعية، ما يعني حكماً الترحيل وتسكير طلب اللجوء. وهو ما حصل مع الكثيرين من اللاجئين، ومنهم حامد محمد هنّو. فهذا الأخير الذي لجأ هارباً من الأحداث في دارفور قبل 20 عاماً، اعتقلته القوى الأمنية عام 2015 أثناء اعتصام اللاجئين أمام مكتب المفوضية. وقد سجن يومها 3 أشهرٍ، ورحّل بعدها إلى السودان، حيث قضى 3 أشهرٍ أخرى في السجن، هرب بعدها إلى قرية اسمها فاما، حيث عمل في منجم للفحم. بقي عامين هناك يعمل «لطلّع مصروفي وأعمل باسبور». في العام 2017، تمكن هنّو من إنجاز جواز سفر بالتهريب بـ«5 آلاف سوداني، أي ما يقارب مئة دولار أميركي». من مكانٍ إلى آخر في السودان بقي هارباً، إلى أن بدأت «الثورة، ونزلت يومها إلى الاعتصام الشهير وبقيت 7 أيام، وعندما بدأت قوات الأمن بالهجوم علينا، هربت إلى سوريا ومن ثم إلى لبنان». وصل هنّو الى بيروت، وبعد أيامٍ قليلة بدأ اعتصامه أمام مكتب المفوضية. ومثله كثر لا يجدون خيارات كثيرة. هي آخر خياراته، فإما «يعترفون بنا كلاجئين ومن ثم يُعدّون ملفاتنا للهجرة»، وإما «البحر». فهنا «لا مستقبل، في النهاية أموت في البحر، ما هو أنا ميت ميت». يوقن المعتصمون بأن «الأمم عم تقبض مساعدات على طلبات اللجوء التي نقدّمها، من دون أن تبتّ الملفات العالقة منذ 20 عاماً وربما أكثر».
جلّ من يعتصمون أمام المفوضية مصيرهم معلّق، فلا المفوضية تبتّ ملفات لجوئهم، وغالباً ما يأتي الجواب من الداخل «ما زال قيد الدرس»، أو أنه «تسكّر»، ولا السفارة السودانية تسأل عنهم. أما من حالفه الحظ، فهو القادر على تجديد طلب لجوئه أو من لا يزال جواز سفره صالحاً لتجديد الإقامة السنوية. والبقية، هم مجرّد «أفارقة»، كما باتوا يُعرفون. أما «الأمم» التي تقيم في تلك البلاد بناءً على قانون دولي لرعاية شؤون اللاجئين، فقد سقطت هذه الرعاية من حساباتها، والسؤال هنا عن المساعدات التي تأتي لهؤلاء. كيف تُصرف؟ وأين؟
يُذكر أن عدد طلبات اللجوء المسجّلة في المفوضية يقارب 2400 طلب. وهي طلبات «خام» لا تزال قيد الدرس.