عندما بدأ شادي فرج عمله في بيروت، كان ثمة هاجس واحد يؤرقه، وهو ألّا يدفع راتبه «على التكاسي». لم يكن في باله، بعد استقراره في العاصمة، سوى حلّ أزمة تنقله واحتساب «كلفة» طريقه قبل أي أمر آخر. فهنا، في البلاد الواسعة، يعرف فرج أن لا وجود لنقلٍ شعبي منظّم يمكن أن يعفيه من المبالغ التي سيدفعها لقاء الذهاب والعودة إلى عمله. هكذا، راح الشاب يستفسر عن «أرقام» الباصات التي يفترض أن تقله إلى عمله، إلا أنه عاد بلا أجوبة، فـ«لا أحد لديه فكرة دقيقة عن الأمر». من هنا، بدأ «مهنة» موازية، أساسها «جمع المعلومات عن أرقام الباصات وخطوط النقل في بيروت الكبرى». غير أن هذه لم تكن بالمهمة السهلة، إذ استغرق إنجازها عاماً كاملاً، عمد بعدها إلى نشر ما توفّر لديه من معلومات على موقع إلكتروني لـ«الإفادة العامة».
نحو 35% من اللبنانيين يستخدمون النقل الشعبي الذي يعمل فوضوياً

مع ذلك، لم ينه فرج عمله عند هذا الحد. إحباطه من الواقع دفعه إلى تطوير فكرته أكثر. وكانت لذلك «أسباب موجبة»، تبدأ بـ«تخلّي الدولة عن دورها في تأمين نقل عام مشترك ومتطوّر»، ولا تنتهي بـ«أزمة السير التي تتسبب بها مركبات النقل الخاص». هذه الأسباب أدّت إلى تشكّل نظام «هجين» صار اسمه «النقل الشعبي». وهو، رغم حلوله مكان الخدمات التي يفترض بالدولة تأمينها وتنظيمها، إلا أنه يعاني مثل قطاعات أخرى من قلة التنظيم والفوضى والمحسوبيّات والمشاكل: لا مواقف ولا محطات ولا مواقيت محددة ولا حتى تعرفة موحّدة، فضلاً عن الاحتكار. أضف إلى ذلك إلى أن «كثيرين من العاطلين عن العمل لجأوا إلى العمل على الخط». كل هذا أوجد قطاع نقل شعبياً وفوضوياً وبدائياً يستخدمه «نحو 35% من المواطنين».
دفع ذلك بفرج الى استكمال المهمة التي أخذها على عاتقه. من هنا، وُلد مشروع «Bus Map Project» الذي أطلقه عام 2015 مع صديقه جاد بعقليني من خلال جمعية أسّسها تحمل اسم «حقوق الركاب». والمشروع عبارة عن خريطة «شعبية للباصات والفانات في بيروت الكبرى»، ويهدف إلى تأمين «حق وعدالة التنقّل للجميع».


في العام 2016، نال مشروع الصديقين دعم جمعية «سويتش ماد» بـ«مبلغ بسيط تمكّنا من خلاله طباعة الخريطة وإطلاق منصة إلكترونية جمعت نحو 80% من خطوط النقل الشعبي في لبنان، وجذبنا الكثير من المتطوعين، وأغلبنا ركّاب لا نملك سيارات».
هكذا، ولدت تلك المبادرة لتضاف إلى مبادرات فردية أخرى يقوم بها من يشبهون فرج وبعقليني للتعويض عن الغياب المزمن للدولة. الهدف منها هو «خدمة الناس»، يقول فرج ، وإن كان الطموح هو السعي «الى تحسين جودة وخدمات النقل العام المشترك وتنظيمه». أراد الشابان من مشروعهما أن يوصل رسالة مفادا «أننا جزء من الناس الذين يطالبون بتحسين خدمة النقل الموجود».
«حقوق الركاب»، التي انبثق عنها المشروع، تعمل اليوم على «تنظيم رحلات للمواطنين لتشجيعهم على ارتياد النقل الشعبي، كما نجتمع مع سائقي الباصات والسيارات العمومية للاستماع إلى شكاواهم وندعمهم بالأفكار والتدريبات التي نقوم بها بالتعاون مع البلديات».
من فكرة صغيرة إلى حلم أكبر. هذا ما صار عليه مشروع فرج وبعقليني. بعد أربع سنواتٍ على الإنطلاقة الخجولة، ها هي الخريطة التعريفية تنتشر على واجهات وشبابيك الباصات العامة، خصوصاً في المتن وبيروت. المشروع لم ينته بعد. ثمة طموحات أخرى في الجعبة، لكنها تنتظر التفاتة الدولة إلى هذا القطاع المهمل.


بعد BRT... «النقل الشعبي» إلى أين؟


وافق مجلس النواب في تموز الماضي على إبرام اتفاقية مشروع النقل العام لمنطقة بيروت الكبرى (BRT أو الباص السريع) بقرض من البنك الدولي بقيمة 295 مليون دولار. يهدف المشروع إلى تحسين السرعة والجودة وسهولة الحصول على خدمات النقل العام للركاب في منطقة بيروت الكبرى وعلى المدخل الشمالي لبيروت. الإشكالية المطروحة اليوم: هل ينجح النقل الرسمي في ظل وجود نقل شعبي؟ وماذا سيكون مصير النقل الشعبي بوجود الرسمي؟ في رأي شادي فرج، هناك ضرورة لاستيعاب النظام الشعبي والتكامل معه «خصوصاً أن التجربة تعلمنا أن النظام الشعبي هو الذي ينتصر دائماً لأنه، ببساطة، لا يعمل حيث يخسر»!