عن طريق «الصدفة» شرع محمد حسين بممارسة مهنته، قبل 45 عاماً. يومها كان وضع البلد من وضع الصحف والصحافة: «باللوج». من بعيد، لا يبدو الأسى الذي يسكن محيّاه جلياً. قد يكون لقبعته الرمادية الصغيرة دور في إخفاء حزنه الطويل. لم يتخلّ بائع الجرائد يوماً عن «الزاوية» التي انطلق منها، في منطقة «الأونيسكو» التي تبدلت معالمها غير مرة... حتى عندما وقعت «حرب التحرير»، وسقطت قذيفة إلى جواره صبيحة 14 آذار 1989. «أنا هون عمي من قبل ما تخلقي بمنيح»، يقول ضاحكاً، من دون أن يخفي نبرته الساخرة من السنوات الطويلة التي قضاها عند المستديرة الشهيرة متنقلاً بين الرصيف وسيارته التي يركنها بمحاذاته. سرعان ما تستعيد تقاسيم وجهه ملامح الملل نفسها. يروي كيف يقضي نهاراته التي غالباً ما تنتهي عند الحادية عشرة صباحاً. في تمام الثالثة والنصف فجراً يخرج من منزله في الشياح، وينطلق بسيارته القديمة، التي بدّل لوحتها أخيراً، باتجاه الموزعين الذين ألفوا حضوره الباكر. يمشي ببطء على طول الطريق المؤدي إلى بسطته عند مستديرة الأونيسكو ترافقه «نسمة هواء غير شكل». وهو طقس اعتاده ابن بلدة تبنين الجنوبية طوال سنوات عمله، حتى في أيام الشتاء. في ضراوة هذا الفصل، يستعدّ لما هو أسوأ. يجابه الأمطار والرياح العاتية بثلاث مظلات ينصبها في صندوق السيارة الخلفي، حيث الصحف والمجلات، ليحميها من البلل، قبل أن ينضم إليها ليحتمي بدوره من نزلات البرد، التي تهدد «قوت يومي» إن حلّت. «أحيانا، لا أنصب الشماسي. أرتدي سترة من النايلون وأترك الأمطار تنهمر فوق رأسي». الأمر ليس شاعرياً كما يبدو، لكنها طريقة ابتدعها لطرد الملل، في انتظار زبائن ما عادوا يقرأون. ومن بين عدّته التي يبقيها «صيفاً شتاءً» في الصندوق، جزمة سوداء تقليدية «لا أتخلى عنها حين تشتد العواصف».
«يللا معشّ في كتير». مصير بائعي الجرائد لن يكون مغايراً عما آلت إليه الصحافة عموماً

في الصيف لا ينصب «شماسيه» رغم حرارة الشمس الحارقة. إذ أن فكّها ومن ثم توضيبها يرهقه، لكنه يتفادى أشعة الشمس بقبعته الرمادية. في فيء صندوق السيارة الخلفي، تتظلّل الجرائد التي لم يبق من أغلبها اليوم سوى أعداد قليلة، المبيع «بات ضعيفاً للغاية». في الماضي، كان يبيع في اليوم الواحد أكثر من 140 عدداً من «النهار» وما لا يقل عن 150 عدداً من من «السفير»، التي تخلى أصحابها، بجسارة، عن إرثها السياسي العريق. مصير «السفير» سرعان ما حلّ بصحيفة «المستقبل» التي ماتت ورقياً مطلع العام الجاري، من دون أن يتبدى حتى الآن «مستقبلها» رقمياً. يستذكر محمد «إيام العزّ»، عندما كان الربح الذي يستحصله من مبيع «المستقبل» وحدها يدر عليه ربحاً يسيراً في اليوم الواحد. صحيح أن الربح لقاء كل عدد لا يتعدى 200 ليرة، لكنها «كانت تجمع». «كنت شمّ هوا وما إسأل. علّمت ولادي وجوّزتن»، يقول. الأرباح أمّنت له «السترة» التي لم يحلم بأكثر منها، ومكّنته من الصمود في وجه الأعباء المعيشية التي أخذت تتزايد تدريجياً منذ أواخر التسعينيات. لاحقاً، بدأت المعاناة. تراجع المبيع وخفتت «هيبة» الصحيفة حتى اندثر قراؤها. عمر مهنة محمد من عمر «السفير» قبل إقفالها، وحال عمله من حال البلاد: «من سيئ إلى أسوأ». «بعد في أنا والحجة بالبيت. أدفع الفواتير بانتظام، وسيارتي قانونية»، لكنه، كحال كثيرين، ما زال بلا ضمان صحي أو ضمان شيخوخة. الأسبوع الماضي، طارده دركي في قوى الأمن وأجبره على إزالة سيارته من جانب الرصيف. «ما بعت شي يومها»، يقول. يرفض استئجار كشك صغير، لأن «العملية مكلفة. بدِّك رخصة وبدك مصاري». كما ان المبيع، على قلّته، سينخفض أكثر لأن الوصول إلى الزبائن المارين بسرعة في سياراتهم يستدعي ألا يكون «مكبّلا» في «كيوسك».
لا يملك محمد الكثير ليقوله عن طلاب الكليات الجامعية المنتشرة في محيط الأونيسكو سوى أن «أحداً من هؤلاء لا يقرأ». لا يبدي أي استغراب لطبيعة العلاقة «شبه المقطوعة» بين الطلاب وقراءة الصحف. نسأله عن طلاب كلية الإعلام التي يبعد مقرّها خطوات قليلة فقط عن «بسطته» مقابل مبنى وزارة التربية، فيومئ برأسه ويده اليمنى سلباً، هازئاً من حيوات طلبة الإعلام التي باتت كلها «إنترنت وتلفونات. أعتمد في المبيع على زبائني المعتادين». وهؤلاء خبروه لوقتٍ طويل، لكنهم باتوا «يختفون واحداً تلو الآخر»، محيلاً في ذلك إلى الموت الذي يخطف المسنين منهم. لا يعوّل كثيراً على الأجيال الصاعدة التي تلهث خلف الحداثة في مدينة فرغت من القراء. يقول إن مصير بائعي الجرائد، وحراس المهنة، لن يكون مغايراً عما آلت إليه الصحافة عموماً. «يللا معشّ في كتير»، يختم.